*صالحة عبيد
تدخل المجلد الأول من يوميات الفرنسي ألبير كامو بشيء من الحذر، فهذه الملاحظات والأفكار التي بدأها كامو في سن مبكرة حتى وفاته في ستينيات القرن المنصرم.. لتكون بالأصل سبعة دفاتر قلصت في ترجمتها العربية إلى ثلاثة هي «لعبة الأوراق والنور».. «ذهب أزرق» و«عشب الأيام»، هي شيء أشبه بمثابة الدخول مجرداً، إلا من أفكارك المسبقة بشأن ألبير.. التي كونتها عن مجموع إبداعه وهي في جلها تشكل واجهة لوجه كامو.. لكن في اختيارك لهذه الدفاتر فإنك تدرك أنك ستكون في لحظة اللقاء الدقيقة والصارمة مع كامو الإنسان.. وهي مجابهة إنسانية جديرة بالمغامرة.. أن تتخلى عن حذرك في مواجهة عقل كامو.. في حدته التي يعبر بها عن فكرة العبث اللامتناهي.. لتدخل متمسكاً بفضول المعرفة إلى آخره.. إلى الحد الفاصل بين الضفة والغرق.. لتطفو هناك في غابة عالمه المتشابك والممتلئ بالتفاصيل.
لعبة الأوراق والنور
«دوار أن نتوه وننكر كل شيء، ألا نتشبه بشيء، أن نحطم إلى الأبد ما يحددنا، أن نهدي الحاضر الوحدة والعدم، وأن نعثر على المكان الوحيد حيث يمكن للأقدار أن تبدأ دوماً من جديد. الغواية متواصلة. هل ينبغي الانصياع لها أو رفضها؟ هل يمكن أن نحمل هاجس عمل فني في جوف حياة وثيرة، أم يجب على العكس مساواته بالحياة وإطاعة البرق؟ الجمال أسوأ همومي، هو والحرية» (ص 246 ).
في حين أن عنوان الدفتر الأول جاء ليحمل لعبة الأوراق والنور رأيته أنا في معظم ما دونه كامو «لعبة الأنا والآخر»، حيث هذا التطواف الذي تناول فيه كامو أولاً علاقته بنفسه في ملاحظات خاطفة حول بعض الأحداث وما يتضمنها من ردود فعل خاصة وشخوص وصفها بمهارة تتنافى مع فكرة العبور اليومي الخاطف، فعلى الرغم من أنه هنا كان واعياً إلى كونه يدون يومياته بما تتضمنه من شكل إنساني صريح يحتمل الضعف.. الغرابة.. القسوة.. الحيرة.. وغيرها من تناقضات فإنه كان يبدو كمن يختار بدقة ما يدونه لكأنه يهندس عملاً ما في قطع فسيفساء صغيرة، ستكتمل أخيراً لتشكل جزءاً مهماً من عمله الوجودي الممتد.. أما في ما يتعلق بالآخر في تلك اللعبة التدوينية فإن كامو قد قسمها إلى شقين.. الشق الأول هو ذلك الرسم التجريدي الخاص بالشخوص التي سيضمنها كامو في رواياته.. لقد رأينا نحن كمتلقين كيف بدأ برسم ملامح شخصيات محورية في الغريب والطاعون والموت السعيد، مستلهماً ذلك من تفاعله مع الآخر في المحيط والأحداث العامة.. مذيباً كل ذلك في قالب متفرد، هو قاعدته الفلسفية الخاصة التي تستند إليها نظرته للأمور، ومحاولة منحها في داخله شكله المتوازن.. أما الجزء الثاني من العلاقة مع الآخر فهي في محاولة نحت شخصه الخاص، عن طريق التجربة الحارة المتماسة بالآخر، وما يستلزمه ذلك من خيارات قد تبدو غير مفهومة للمقيمين بعيداً عن عالم كامو.. مثل اختياره الانضمام للحزب الشيوعي في الثلاثينيات من القرن العشرين، ومثل تأملاته المرتبطة بالحرب بعد اختياره ومحاولاته الحثيثة أن يشارك فيها كمجند رغم إيمانه بعبثية لعبة السيطرة البشرية.. لقد أراد رؤية شكل آخر للإنسان عن قرب، ومعايشة خوف أسئلته في بؤرة المحك العظيم.. والتلظي القائم.. بؤرة الحرب.. هذا عدا عن تفصيله لمجموعة من المصادر التي كان يمر بها في بحثه المستمر لإيجاد صوت واضح لكل ما ينتجه من أجناس أدبية وفكرية.
«ذهب أزرق» و«عشب الأيام»
«في النهاية.. لم أرَ بوضوح داخلي أبداً، ولكني تبعت دوماً وغريزياً.. نجمة غير مرئية»
ذهب أزرق، ص 333
كامو ينضج ويغلف الحياة بنظرة أكثر توازناً.. إنه يزداد تماسكاً أمام الأحداث الكبرى.. ونوبات الأفكار التي تراوده تخف ضراوتها، إذ إنه يجد لها قالباً يبدأ نحتها منه.. يظهر أكثر حسماً وحزماً في تكوين مواقفه تجاه الآخر ومنه.. يستغرق في إكمال النواة الإنسانية أكثر؛ بدءاً من الشكل الأشمل الذي يحتوي على هذا الوجه العبثي.. المتمثل بالطبيعة الأم.. يخصص صفحات كثيرة لتدوين تفاصيل رحلاته البعيدة وما يشملها من تفاعلات مع الكون في عتمته وإبهاره الساطع.. نداوته وجفافه وكيفية تفاعل الإنسان التاريخي معه، وما تركه من شواهد تاريخية تعبر عن تفاعله مع وجه الأرض الأول وكيفية تطويعها مادياً ومعنوياً وكيف تزاوجت هذه الأشياء لتؤسس أشكال الحضارات والفنون الأولى.. ويركز كامو هنا على شواهد وتأملات خاصة تقارن كثيراً بين الحضارتين الإغريقية والرومانية.. ويتناول في خضم ذلك صور تنقلاته بين الجزائر وفرنسا، مقارناً بين أرض ميلاده الشرقية الملتهبة وبين فرنسا مستقره الأخير المترفع عن التفاعلات الحارة والمبالغ بها.. يظهر تعيساً نوعاً ما في أرض نهايته تلك إلا أنه مطمئن تجاه موقفه الذي اتخذه من حركة التحرير الكبيرة في الجزائر لنيلها الاستقلال.. رغم ما أثاره ذلك الموقف من حفيظة واستنكار أقرب أصدقائه قبل غيرهم.. مبرراً ذلك بإدراكه العميق لأن ما يبنى على عنف مهما كان نبيلاً سيتفتت بالنهاية، في إشارة ضمنية إلى الحركات الشعبية المسلحة لتحرير الجزائر، وما أفرزه ذلك من صراعات دموية مع بعض المدنيين الفرنسيين، إلى جانب أولئك الموجودين في المنظومة العسكرية الفرنسية.. فيما وعلى حسب رؤيتك الخاصة قد تقبل أن ترفض هذا الموقف، إلا أنه لا يجب أن يخرج من دائرة الاستنكار من طارح هذه الرؤية، وهو الذي يأتي كسليل ثورة فرنسية مخضبة بسيرة طويلة من العنف والدم.. عموماً كامو ذاك الملتزم بوجهة نظره بشدة، لا يحاول في الوقت ذاته أن يأتي بردود أفعال تجعله يظهر بالموقف الذي يأتي متطرفاً حاداً، ويتأتى ذلك، في فصل خصص لبعض مراسلات كامو مع أصدقاء وآخرين مجهولين من القراء العامين، حيث يتلقى وجهات النظر الأخرى وأشكال السخط المتنوعة بتقبل وفهم لضرورة تنوع الأفكار وتصارعها حتى تنضج أخيراً في حوار إنساني مستقيم.. لا يغفل ألبير كامو أيضاً في هذين المجلدين تجانس مكونات يومياته، بحيث تكون جغرافيا تدوينية مفهومة لأي قارئ غريب أو شخص قد يقع الدفتر في يديه خلسه.. لكأنه يمهد من خلال ذاته إلى صوت أبدي ممتد ككيان من لحم ودم حاضر وواع ويحاور.. هذا بالإضافة إلى كم لا يحصر من الاقتباسات التي كان يدونها على لسان قائلها أو كاتبها كومضات تضيء، أو تدلل على شكل من أشكال المعرفة، كما أنه لم يغفل في بعض ذلك تأملاته الخاصة في يوميات أو سير ذاتية كان قد تناولها لمبدعين قد يكون تقاطع معهم في أسئلة الوجود والإبداع الشائكة ومنهم: تولستوي وفنسنت فان جوخ، مستعرضاً في خضم التدوين لتلك السير المقتضبة تأملاته النفسية الخاصة التي استطاع أن يراها في تلك الشخوص الإبداعية، بما احتوته من اضطرابات متنوعة جديرة بالملاحظة.
«لا يوجد في منزلي كنبة واحدة، لكن حفنة كراسي.. هكذا دائماً.. لا استسلام أبداً ولا راحة»
عشب الأيام ص 198
أياً كانت درجة سطوة عقل كامو الحاد عليك كمتلق.. فإنك لن تندم أبداً على خوض مغامرة ذلك الدفتر الكبير الذي يجعلك لشدة ما ذكر فيه من تفاصيل دقيقة كالمتسلل ليحصل عليه خلسة، وهو الأمر الذي يختلف تماماً عن قراءة أي إبداع خاص من إبداعاته السردية.. هي مغامرة واقعية جداً جديرة بأن تخوضها كاملة، متشبعاً بالتأثير إلى أقصاه كما ذكرت بداية دخولي لهذا الاستعراض السريع للعمل.. لتأتي أنت كالجالس إلى الجهة الأخرى من طاولة الحديث، مستمعاً ومستمتعاً، مرافقاً كامو الشاب.. ثم كامو الآخر الناضج، الذي كان يبدو كمن يدرك أن نهايته، ستأتي وشيكة على غير المتوقع، في فاجعة حادث السيارة المريب الذي قتله وهو في بداية الأربعينيات من عمره.. كان يدون بقاءه ويستعجل في تكريس ذلك البقاء معداً لك أنت أيها القارئ، هذه الدفاتر كمصافحة عقلية عابرة للأزمنة والجغرافيا.. وكحوار فكري وإبداعي ثري، يجعلك تفهم سيكولوجية هذا الرجل الذي كتب العبث بأجود ما يكون.
بقي أن أشير إلى ملاحظة صغيرة أخرى من باب أمانة الاستعراض الشامل للعمل، وهي أن الترجمة العربية للعمل حملت بعض الترهلات، بحيث خرجت بعض العبارات، والفقرات بشكل مبهم، لكنها بالمجمل ــ الترجمة – لن تعوقك عن الوصول إلى خلاصة العمل، من جانبي المعرفة والمتعة.
…………………………………………
الكتاب: لعبة الأوراق والنور- ذهب أزرق – عشب الأيام
تأليف: ألبير كامو
ترجمة: نجوى بركات
إصدار: دار الآداب ومشروع كلمة للترجمة
جغرافيا داخلية
تشكل المفكرة في أجزائها الثلاثة، خريطة عملاقة لمحطات أساسية في رحلة استكشاف كامو لجغرافيا الكتابة: جغرافيا رواياته وبحوثه ومسرحياته، وما رافقها من نوايا وشكوك ومخاض، حتى ليشعر القارئ أنه يستمع، لحظة بلحظة، إلى صوته الداخلي، وما يرفده من أصوات شخوص أعماله، مثلما تحضر إبّان ولادتها، دونما تبرح، وعلى حين غفلة، كقطعة خام لم تعمل فيها الكتابة الواعية بعد إزميلها. إنها الجغرافيا الداخلية لعوالم كاتب ما استقر قط أو هنئ على الرغم من نجاحاته.
_______
*الاتحاد الثقافي