كيف تمت شيطنة دولة وإعادتها إلى ما قبل التاريخ


*سعد القرش


أن تصحو الدنيا على دولة كانت تحمل لقب «بلاد الشعر والورد والبلبل»، وقد أصبحت عنوانا للإرهاب العالمي، ورمزا للشر المطلق، فهذا خارج حدود المنطق، أكبر من شَرَك أعدّ بليل وأسهم فيه من أسهم بأنصبة متفاوتة، تراجيديا يفاجأ شعب بأنه وقع ضحيتها، ولا يملك من الوسائل ما يمكنه من دفع الأذى عن نفسه، أمام آلات عسكرية جبارة لقوى كبرى تملك أيضا وسائل إعلامية أكثر فتكا وتأثيرا.
كتاب «مصرية في بلاد الأفغان» يضع القارئ في قلب تلك البلاد.. حضارتها، وتاريخها وآدابها، قبل أن تتحول في الصورة الذهنية العالمية، بعد سنوات قليلة، إلى جغرافيا تصدّر عنفا عابرا للقارات. كانت مؤلفة الكتاب عفاف السيد زيدان أول باحثة عربية تذهب إلى أفغانستان عام 1968، خلال حكم آخر ملوكها محمد ظاهر شاه (1933 ـ 1973)، لدراسة الدكتوراه في الشعر الفارسي في كلية الآداب بجامعة كابول، وموضوعها “فَرُّخي سيستاني.. عصره وبيئته وشعره”.
كانت جامعة كابول تضم عشر كليات منها الطب والصيدلة والهندسة والاقتصاد والعلوم والآداب، والباحثة مبعوثة من جامعة الأزهر، بعد عام من حصولها على الماجستير عام 1967 من كلية الآداب بجامعة القاهرة، عن الشاعر الفارسي “العنصري البلخي”، الملقب بملك الشعراء في عصر السلطان محمود الغزنوي، في القرن الحادي عشر الميلادي.
وسط مباني جامعة كابول كان قبر جمال الدين الأفغاني شامخا، بأعمدته الرخامية السوداء، وكان الأفغان قد استقبلوا رفاته من تركيا، ليدفن في بلاده، وأقاموا حفلا كبيرا بهذه المناسبة حضره الملك محمد ظاهر شاه، وتبارى الشعراء الأفغان الكبار في إلقاء قصائدهم، مشيدين بالزعيم العائد بعد أن أدى دوره في مناهضة الاستعمار في العالم الإسلامي. في وقت لاحق، بعد أن شوهت الحروب وجه أفغانستان، أتيح للمؤلفة أن تعود إليها، مرة عام 2003 وأخرى عام 2013.
أصبحت الجامعة ساحة للحشائش والأحراش، “ولم تسلم مباني الجامعة من الضرب وطلقات الرصاص، أما قبر جمال الدين الأفغاني برخامه الأسود، وأعمدته الطويلة البراقة، فلم أتمكن من رؤيته وسط هذه الأحراش، وهذا أمر طبيعي فمن سيذهب ويشذب الحشائش ويقلم الأشجار والصواريخ وطلقات الرصاص تنهمر على كابول يوميا من كل اتجاه”، ليضرب الأفغان مثلا في طول البقاء ضحايا.. للغزاة والحروب الأهلية أيضا.
بكثير من الإنصاف ترى المؤلفة أنهم عاشقون للحرية، وأن الطبيعة جعلتهم يقدّسون الحرية، فالجبال والطرق وعرة، ولكنها متنوعة، وهذا التنوع منح المواطن الأفغاني الحرية في اختيار الطريق الذي يبلغه مقصده، من دون خضوع أو تأثير من أحد، وكانت التجربة وحدها دليله ومرشده إلى أيّ الدروب يسلك، “وهذا يفسر لنا شيئا مهما في مفهوم الحرية عندهم، وهو أن بلادهم محاطة بالشيعة الإسماعيلية من الشرق والجنوب في باكستان، والشيعة الإمامية من الغرب في إيران، ومع ذلك نجد أن 95 بالمئة من الأفعان سنّة، وعلى مذهب الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان”.
في نهاية ستينات حتى بدايات سبعينات القرن العشرين كانت أفغانستان جميلة، “هي أول دولة من دول المشرق الإسلامي نالت استقلالها، في عهد أمان الله خان عام 1919، بعد قصص من الحروب والبطولات المشهورة في التاريخ، كما كانت أفغانستان تتمتع بوجود برلمان حرّ منتخب، وكانت المرأة ممثلة فيه، كما كان يوجد تمثيل للحزب الشيوعي. وكانت مدنها الكبيرة عظيمة شامخة” ومنها كابول، بلخ، هراة، باميان، بدخشان، غزنة، مزار شريف، قندهار، قندز، بغلان، زابل، جلال آباد.
المؤلفة التي كانت عميدة لكلية الدراسات الإنسانية بجامعة الأزهر في القاهرة واصلت زياراتها للبلد المحفور في الجبال، وترصد في شهادتها محطات تاريخية مختلفة، تزيح القشرة الدعائية الغربية عن السطح، وصولا إلى حقيقة أن الأفغان أصحاب فكر حرّ، لهم رصيد في تاريخ الفكر الإسلامي من دراسات شملت العلوم والفنون والآداب. ولكن جيوش الناتو بقيادة الولايات المتحدة مهدت لغزو أفغانستان عام 2001 بمدفعية أكبر من أدوات القتل، هي القتل الرمزي للشعب الذي حمل صفة الإرهاب، “وهذه تهمة ظالمة، فلم يشتهر عن الأفغان أنهم قاموا بأعمال تخريبية في الخارج، ولم يتورّطوا في ارتكاب جرائم دولية. إنهم أناس يدافعون عن بلادهم ويتحصنون في داخلها ومن يذود عن وطنه، ويدافع عن عرضه ضد أيّ غاصب أو محتل، متى كان إرهابيا؟”.
بعد أن خبرتهم جيدا، عبر نحو خمسين عاما، تقول إن الأفغان كرماء، ويعشقون الشعر، ويحبون الحياة، ويتسمون بالتسامح، ولا يميلون إلى العنف، أو ازدراء المختلف عنهم في الفكر، فعلى سبيل المثال تسجل أن متحف كابول كان يضم تماثيل من العاج والخشب والفضة والذهب، وأغلبها مطعّم بالأحجار الكريمة وغيرها من المجوهرات التي تزخر بها أفغانستان، وكان المتحف جاذبا لطلاب الدراسات العليا من أوروبا والولايات المتحدة قبل انفتاح بوابة الجحيم على الأفغان الذين تراهم وسطيين متسامحين، لا يميلون إلى التشدد، إذ لم يحاول أحد أن يمس قطعا بالمتحف “ومنها تماثيل خشبية مفزعة الشكل كانوا يعبدونها قبل الإسلام… وكانوا يصنعونها بأيديهم فإذا اشتد البرد عليهم كانوا يكسرونها ويشعلون فيها النار لتمنحهم الدفء”.
يمتاز الكتاب بملحق لصور فوتوغرافية تسجل جوانب من الحياة الاجتماعية حتى منتصف سبعينات القرن الماضي، حيث لم تكن طالبات الجامعة يرتدين الحجاب، كما توجد صور لمعالم أفغانستان التي اختفت مثل تماثيل بوذا العملاقة في مدينة باميان التي دمرتها حركة طالبان قبل نحو 20 عاما. ولكن المؤلفة ترجّح أن هذه التماثيل فجّرت عمدا، بفعل من أرادوا أن يجرّدوا أفغانستان والعالم الإسلامي من التراث القومي والإنساني، فلم يكن أحد يعبد هذه التماثيل التي دخلت في نسيج الأدب الشعبي الأفغاني، فأطلقوا على التمثال الكبير وطوله اثنان وخمسون مترا “شاه بابا” أي الملك الوالد، وأطلقوا على التمثال الذي يليه وطوله خمسة وثلاثون مترا “شاه ماما” أي الملكة الوالدة، أما التماثيل الصغيرة الموجودة حولهما فأهل باميان يقولون إنهم أولاد الملك والملكة. وقد حيكت حولها القصص الشعبية، فالملك الوالد والملكة الوالدة وأولادهما يحفظون مدينة باميان التاريخية، ويرعون أهلها الطيبين.
قبل أن يفيق العالم، بعد نوبة تفاؤل بالانعتاق من أسر المركزية الأوروبية، جاء مدّ العولمة كاسحا، يسعى لقولبة الشعوب، عبر نشر معيار واحد وتكريسه، في تفاصيل صغيرة أو تبدو كذلك، ولكنها دالة.. وجبات الطعام السريعة (ماكدونالدز بأقواس شعارها الأصفر)، الزي العملي (بلو جينز وملحقاته)، فضلا عن تجليات العولمة في الفنون والآداب التي تسخر من فكرة التنوع، وتتعالى على التقاليد المحلية. وهنا، في “بلاد الشعر والورد والبلبل”، اتهم الأفغان بأنهم “أسرى عاداتهم وتقاليدهم الموغلة في الجهل والتخلف. قول مردود عليه، لأن بيئة الأفغان قاسية من جبال شاهقة، إلى وديان سحيقة، ومن الحرّ اللافح إلى البرودة التي تهرأ العظام وتجمّد الإنسان حتى الموت. كل هذا أورث الأفغان الصلابة والشدة، وعدم الاعتماد على التقاليد البالية في مقاومة الطبيعة العاتية، حتى يستطيعوا النجاة من براثنها”، ولكن هذه الطبيعة القاسية لم تكن حائلا أمام انفتاحهم على العالم، إذ لم يسجل أيّ من الرحالة أن الأفغان أصحاب فكر منغلق.
وترى المؤلفة أن هذا الادعاء يخالف الحقيقة؛ لأن الحدود المشتركة بين أفغانستان وجيرانها، وموقعها المتميز على طريق الحرير، منحتهم رحابة في الأفق الفكري، فانفتحوا على الأديان والعقائد والثقافات؛ إذ كانت أفغانستان مركزا للثقافة اليونانية التي أتت مع الإسكندر الأكبر المقدوني، كما كانت أحد مراكز البوذية، ومركزا من مراكز الزرادشتية، كما انفتحت على الثقافة الهندية بمختلف تنوعاتها وتجلياتها.
وقوع البلاد على طرق التجارة والحروب والصراعات أكسب شعبها تنوعا آخر يتجلى في التركيبة السكانية، فتعددت أصول الشعب الأفغاني وأجناسه وعرقياته، وهي طبيعة تختلف كثيرا عن غيره من الشعوب، إذ أدت الجغرافيا وتفاعلات التاريخ إلى صهر هذه الروافد وذوبانها لتخرج منها الشخصية الأفغانية الصلبة التي ظلت “في مقاومة متجددة، لا يعتمدون فيها على تقاليد عتيقة أو موروثة. والقصص كثيرة في كتب الأدب عن ابتكاراتهم في تحدي الطبيعة”، حيث تبلغ درجة الحرارة في مدينة بنجشير 32 درجة تحت الصفر في الشتاء.
وتستشهد بقصة مدينة بنجشير الواقعة في شمالي البلاد، ومعناها “الأسود الخمسة”، فكلمة “بنج” تعني خمسة، و”شير” معناها أسد. وكانت المدينة تحمل اسم “كِجْكَنه” أو “كِجْكَن”، وأهلها مشهورون بالبأس الشديد، حتى أنّ زال حذّر ابنه رستم ألا يذهب إليها “حذار يا بنيّ أن تذهب إلى كجكن، فسوف تتقطع وتتمزق سنابك جيادك وخيولك. يجري فيها نهر عميق سريع هادر غدار، وليست فيها حشائش أو أعشاب غير حجارة كأنها الخناجر البتارة”.
وكان السلطان محمود الغزنوي المتوفى عام 421 هجري، قد طلب عددا من رجال كجكن ليقيموا سدا على نهر غزنة، لمنع فيضانه الذي كان يسبب ضررا بالغا، فاجتمع أهل المدينة، وأنابوا عنهم خمسة للذهاب إلى السلطان، وإنجاز المهمة، وأقاموا السد. وبهر السلطان محمود حينما رأى هذا العمل المعجز، وقال “إنكم لستم خمسة رجال بل خمسة أسود”، ومن هنا جاء الاسم الجديد لمدينة بنجشير بدلا من كجكن. إلى هذه المدينة ينتمي أحمد شاه مسعود، وقد اغتيل في ظروف غامضة في التاسع من سبتمبر 2001، وأطلق عليه “شير بنج شير” أي “أسد الأسود الخمسة”.
عادت الكاتبة إلى أفغانستان عامي 2003 و2013، وزارت مناطق عاشت فيها سابقا، وشعرت بكثير من الحسرة والألم، لأنها رأت بلدا آخر، “أفغانستان التي رأيتها لم تعد هي أفغانستان. فما حدث في كابول من الهدم والتخريب أكثر من أن يوصف”، حيث اختفت بنايات وفيلات من فوق الأرض.
أما الأفغان الذين عرفتهم “مسالمين طيبين، أصبحوا يتعايشون مع القنابل وطلقات الرصاص وقذائف الصواريخ التي تنهمر عليهم يوميا من كل ناحية وكل طرف، وأصبح شيئا عاديا لديهم أن يروا القتلى والجرحى والمصابين يتساقطون أمام أعينهم”. وترجع هذا التغير في طبيعة الشعب وردود فعله إلى اجتياح الجيوش السوفييتية والأميركية لأفغانستان، غزو أدى أيضا إلى تدمير آثار أفغانستان بعد أن “سرقوا ما سرقوه من الآثار”.
باختصار، وبكثير من الأسى تلخّص الدكتورة عفاف زيدان هذه التراجيديا قائلة إن الشعب الأفغاني “ابتلي بأعداء طامعين”، كما ابتلي بإخوة متناحرين عقب خروج السوفييت عام 1989.
___
*العرب

شاهد أيضاً

العهدُ الآتي كتاب جديد لمحمد سناجلة يستشرف مستقبل الحياة والموت في ظل الثورة الصناعية الرابعة

(ثقافات) مستقبل الموت والطب والمرض والوظائف والغذاء والإنترنت والرواية والأدب عام 2070 العهدُ الآتي كتاب …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *