الصعود إلى كوكب الطفل


*محمد الأسعد


ماذا نكتب للأطفال؟ سؤالٌ أول يواجه أي فرد أو مشروع يخطط لمقاربة ما سميته ذات يوم الكوكب المجهول، قبل ما يقارب 30 عاماً، أي مع بداية التفكير بإنتاج مادة تثقيفية للأطفال، وأطفالي تحديداً. كانت جولتي في عوالم المطبوعات العربية آنذاك باعثة على اليأس، وأحسست أن الزمن الذي كانت فيه أسماء مثل «المكتبة الخضراء»، ومجلة «سندباد»، ورواد من أمثال «كامل الكيلاني» (1897-1959)، لم يعد ماثلاً حتى كذكرى.
بعدنا، أعني بعد طفولتنا، تغيرت أشياء كثيرة، وأصبحت مسؤولية تثقيف الطفل مسؤولية شخصية، أي أن يفكر كل أب بوسائل ينقذ فيها أطفاله من عالم غمرت فيه عوالم الطفولة لهجات محلية طغت على اللغة الفصحى، وانتشرت في أرجائها قصص قادمة من عوالم أخرى، حلت محل مغامرات السندباد الطفل الذي رافقنا زمناً مغامرات شخص يدعى سوبرمان، وبدل شخصيات قصصنا الشعبي، علاء الدين، والشاطر حسن.. إلخ، دخلت المسرح شخصيات غريبة بعضها على شكل وطواط، وبعضها على شكل شبح، أو رجل عار نشأ بين القردة. 
لم تتغير القصص ولا لغة القص فقط، بل وتغيرت الصور. اختفت الصور المألوفة ذات العلاقة بالبيئة من حولنا، بأناسها وشجرها ونهرها وبحرها، وبدأت تستولي على مخيلة أطفالنا صور عوالم غريبة مفارقة لعوالمهم، سواء كانت تلك التي يعرفون ويلمسون أو تلك التي تحتشد بها حكايات الأمهات والجدات. ولعل تأثير الصور، وهو الأشد فعالية في التثقيف، وإن لم يلتفت إليه المعنيون بأدب الأطفال التفاتاً جاداً، كان يتسلل إلى عقول الصغار ويحدث تغريباً شبيهاً بتغريب التوحد. الصور كما كانت ترسمها ألفاظ الأمهات وحكاياتنا الشعبية، أو أنامل رسامين كبار من أمثال الرسام «حسين بيكار» (1913-2002)، بدأت تحل محلها صور أقل ما يقال فيها إنها وليدة أخيلة مفارقة لكل ملموس واقعي، فكانت أشبه بألفاظ دالة بلا مدلولات.
***
في هذا العالم الذي صحوتُ عليه فجأة وأنا أفكر بماذا أقدم لأطفالي، اتسع نطاقُ المأزق الذي لمحته، لم يعد البحث عن لغة وقصة بل وعن صورة أيضاً، بالإضافة إلى البحث عن غاية وهدف. ولخصت في هذا الثالوث قضية كيف نخاطب أطفالنا.
كان هناك شبه اتفاق شائع على وجود صفات محددة للطفل الذي نتوجه إليه، فهو كائن نسعى إلى إبعاده عن شجون وشؤون عالم الكبار، كائن لا شأن له بعالمنا، وما زال الوقتُ مبكراً على إدخاله فيه. هو كائن لا يملك تفضيلات معينة، وعلينا نحن الكبار أن نمنحه ما يفضله، لا أن نصغي إليه. ثم هو كائن يود أن يلهو ويلعب بأي وسيلة متاحة، ولا معنى لتفضيل هذه الصورة أو تلك، ولا هذه القصة أو تلك، أو البحث عن غاية محددة نثقل بها عليه. وحتى اللغة، وقيل هذا كثيراً، يجب ألا تكون لغة فصحى «ثقيلة»، بل عامية قريبة من عالمه وخياله. 
وفرض علينا هذا الشائع منذ أن ولجنا مجال تقديم أدب للأطفال، خوض معارك في كل اتجاه؛ معركة في مجال تقديم النص الذي نرى أن تكون من صفاته ربط الصغار بذاكرة أمّة، وليس بذاكرة حي أو شظية محلية هنا أو هناك، وأفضل النصوص هي تلك التي تعتمد على الموروث الشعبي، وعلى صياغة مبسطة وذكية لعيون أدبنا العربي، كأساسين، والالتفات إلى أفضل ما لدى الشعوب الأخرى من نصوص ننتقي منها ما يندرج في سياق هدفنا الأساس: ارتباط الطفل العربي ببيئته أولا، وبإنسانيته ثانياً. أي تنمية موقف نعتقد أنه موقف أخلاقي لا بديل عنه. 
وفرض علينا الشائع خوض معركة في مجال تقديم لغة فصحى نقية في مواجهة من يعتقدون أن الفصحى ثقيلة على أسماع الصغار، وكنا نتساءل؛ أين هو الثقل حين يعتاد الطفل منذ صغره على أن اسم «الماء» ليس «مويا» أو «ماي» أو «مي» أو«مية» بل اسمه الصحيح «ماء»؟ وقل مثل هذا عن بقية المسميات. 
وأتذكر أن د. عبد الدنان، وكان أستاذا في جامعة الكويت آنذاك، كان قد بدأ مشروعاً ذكياً في مجال تعليم اللغة للأطفال عماده مخاطبتهم منذ مرحلة رياض الأطفال بلغة فصحى. وبدت لنا حجته بليغة ومقنعة آنذاك، لأن تعليم الطفل لغته العربية منذ بواكير نشأته سيجعل قدرته على الاستيعاب والتعلم بوساطة لغته هذه في المراحل الدراسية المتقدمة مضمونة وفعالة. 
ولم تتوقف المواجهة عند هذا الحد. كنا نفكر بمشروعات أوسع، تمتد إلى صياغة موسوعة خاصة بالأطفال العرب حين اكتشفنا أن الثقافة العربية تكاد تخلو من موسوعات من هذا النوع، وخططنا مع مجموعة من المختصين لتأليف موسوعة تأخذ في اعتبرها صياغة مواد ثقافية مجالها التاريخ والجغرافية والاقتصاد والفنون والآداب وبقية العلوم الإنسانية، ويتم تعميمها على العواصم العربية، والهدف هو صياغة وعي يؤهل الطفل العربي لمعرفة ذاته وذات وطنه وأمته، ويؤهله لدخول العالم المعاصر بعدةٍ من مفاهيم معرفية فعالة. 
ووجد هذا المشروع ترحيباً وقبولاً من مؤسسة عربية مسؤولة مقرها الكويت هي «الصندوق العربي للتنمية»، ورحب مدير الصندوق، وعبر عن استعداده لتمويل مشروع هكذا موسوعة بعد أن اطلع على الورقة التمهيدية والمخطط وأسماء المختصين المجتمعين من عدد من البلدان العربية، ونماذج من المواد المزمع أن تكتب بقية المواد على غرارها. ولكنه اشترط أن تتبنى المشروع مؤسسة لأن الصندوق ليس في نظامه تمويل فرد أو مجموعة أفراد، فذهبنا إلى عدد من المؤسسات المعنية حسب إعلاناتها بشؤون الطفولة، فلم نجد أي رغبة في التعاون، بل وجدنا أمراً عجباً يستحق الذكر في ظل الظروف العربية الراهنة، اعتذرت مؤسسة من هذه المؤسسات بحجة أنها تعمل على «ترجمة موسوعة كولومبيا الأمريكية للأطفال»، وليست بحاجة لدعم مشروع موسوعة أخرى. فكان جوابنا على هذه المؤسسة: «نحن أساساً فكرنا بصياغة موسوعة للأطفال العرب حتى لا يظل أطفالنا تحت رحمة هكذا موسوعات لم تُكتب لنا ولأطفالنا».. وجاء الجواب.. صمتاً مطبقاً.
***
الطفل كوكب مجهول، كان هذا تعبيرنا في مواجهة كل الافتراضات زعمت أنها تعرف تمام المعرفة ما يريده الطفل ويفضله ويحبه ويسعى إليه. منطلقنا كان أن ليس للطفل صورة واحدة ثابتة، فصورته متغيرة بسبب المتغيرات الاجتماعية وتغير الأحوال، ومن ثم تغير صورة العالم في أذهان الأسر العربية، الوحدات الاجتماعية الأساسية، وبالتالي تغير أساليبها التربوية. الطفل، حسب تجاربنا وبحوثنا وما رأيناه ولمسناه في عدة مناسبات؛ في معارض الكتب، في أماكن اللهو، على الشواطئ. جغرافية لا نستطيع أن نقرر ما هي طبيعة تضاريسها، مرتفعاتها وسهولها وينابيعها. هو كوكب لا نعرفه قبل أن نهبط ونستكشف ونتعرف عليه ما هي طبيعته، ما هي حاجاته؛ لهذا السبب كانت دعوتنا إلى التجريب، نقدم هذا النص أو ذاك، نقرأ هذه القصيدة أو تلك، ونرسم صورة بهذا الأسلوب أو ذاك، ثم نصغي ونستمع ونتعلم من الطفل.
وحين نسأل الآن: كيف نكتب للطفل؟ كيف نحميه من طغيان صنوف التغريب التي تنهال عليه من شاشات التلفاز، أو الألعاب الإلكترونية؟ أعتقد أن توفر منهجية واعية، أو استراتيجية تعامل مع الوسائط، مع الكلمة والصورة والغاية، تستطيع أن تكون هادية وسط فوضى لا تجتاح الطفولة العربية فقط، بل تجتاح كل جوانب حياتنا، وعلى الأخص مخيلتنا وثقافتنا. فلنذهب إلى رأس النبع، إلى حيث تتدفق المياه، إلى هذه الثقافة التي هي ثقافتنا ونعرف كيف نجعلها حية من أجلنا ومن أجل أطفالنا. إن ثقافة لا تصغي إلى أطفالها، لا تتعرف على بيئتها، لا تعي ذاتها وغايتها، لهي ثقافة ميتة ولو لم يتم دفنها رسمياً.
_______
*الخليج الثقافي

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *