*ناصر يحيى
قبل نحو شهر مرت الذكرى الـ127 لميلاد الفنان الكوميدي العالمي شارلي شابلن (1889-1977) لكن الذكرى لم تنل حظها من الانتباه في عالمنا العربي، رغم أن شابلن أضحك العرب كثيرا وحتى الموت كما يقال، ورغم أن فنانين عربا كثيرين حاولوا تقليده واقتباس مشاهد شهيرة له.
وشابلن هو الإنسان الذي انتزع أكبر قدر من الضحكات الصاخبة من أفواه البشر، وأضحك -وما يزال- كما يقال “الجدود والآباء والأبناء والأحفاد” وسيظل الملايين يضحكون مستقبلا كلما شاهدوه بثيابه الغريبة المتناقضة، وحذائه المثقوب، وعصاه الشهيرة، وهو يجري هنا وهناك هروبا من بطش مطارد له بحجم الفيل أو شرطي همجي، أو وهو يرتكب الأخطاء بلا حساب أثناء عمله أو سيره أو حتى جلوسه.
وعلى قدر ما أضحك شابلن البشر حتى الثمالة، فإنه كان في الحقيقة يسخر وينتقم من سنوات البؤس الشديد التي عاشها في صباه مع أمه المجنونة وأبيه السكير، وهي مرحلة زمنية انضوت ضمن العصر الفيكتوري الذي بلغ فيها الغنى والفقر الحدود القصوى.
في تلك المرحلة اجتمع لأسرة شابلن كل أنواع الفقر والجوع والتشرد، والحياة في ملجأ الأيتام، والنوم في الشوارع، وبيع الثياب وما تبقى من الأثاث الحقيرة لتوفير قيمة الطعام الضروري للحياة، وصولا إلى ترك المدرسة قبل تعلم القراءة، والعمل في مهن حقيرة حتى وضع قدميه على بداية طريق الفن عندما عمل ممثلا لأدوار الحيوانات الصغيرة لاستدرار الضحكات.. والبنسات.
من المفارقات أن شابلن عندما أنتج أعظم أفلامه الكوميدية ضد الفقر والجوع والتشرد كان مليونيرا ورجل أعمال ثريا منغمسا في عالم النجوم والمشاهير ومندمجا في ترفهم وحفلاتهم الفارهة، على عكس ما يصوره على الشاشة الفضية من حياة الفقراء والمشردين. ويبدو أنه حسم أمره بأنه نال ما يكفيه من الجوع والتشرد، وقد حان وقت الانتقام واستثمار حياته البائسة الماضية على شكل ضحكات وابتسامات ينتزعها من جمهور المشاهدين ومعها دولاراتهم!
ورغم أن مشاهد أفلامه كانت تدور في الأحياء الفقيرة البائسة فإنه في مذكراته لا يكاد يحن إليها، أو يفكر في العودة إليها ليعيش قليلا مع زملائه القدامى، وعندما عاد للمرة الأولى إلى لندن بعد غياب عشر سنوات اكتفى بالطواف بسيارة في الأحياء والشوارع التي عاش بؤسه فيها، والمرة الوحيدة التي دخل فيها بيتا بائسا في منطقة فقيرة كانت للالتقاء بـالمهاتما غاندي أثناء زيارته للندن.
مكياج الفقير
“المكياج” الشهير الذي كان شابلن يضعه على وجهه للجائع المتشرد، وينتزع به الضحكات وملايين الدولارات، لم يكن أبدا رمزا لشيء محبوب إلى نفسه، فقد ظل الفقر كريها إلى نفسه، ولم يتردد في مذكراته في إدانة قيام البعض (تحديدا صديقه الكاتب الشهير سومرست موم) بتصوير الفقر بصورة جذابة للقراء، وتحويل حياة الفقراء إلى حالة رومانسية جميلة، فهؤلاء بالتأكيد لم يذوقوا الجوع، ولم يعرفوا معنى التشرد كما عاشها هو، وكذب ما نسبه إليه موم عندما قادتهما أقدامهما إلى حي فقير أنه قال: “اسمع! هذه هي الحياة الحقة وما عداها زائف.. أليس كذلك؟”.
وكتب شابلن رأيه صريحا في الفقر أنه عدو لإنسانية الإنسان، فلا يوجد فقير يحن إلى الفقر، ولا الفقر يمكن أن يكون جذابا، أو معلما للقيم بقدر ما هو وسيلة لتشويه الجميل من الحياة والقيم.
ويعترف بأن الثروة والشهرة وليس الفقر هما ما علمه أن يرى العالم على صورته الصحيحة، ويكتشف الزيف في المحيطين حوله من رجال المجتمع والعائلات الشهيرة، على عكس ما يفعله الفقر الذي يجعل الفقراء يبالغون في تقدير فضائل ومحاسن الأغنياء والطبقات الراقية.
الظريف أن الصورة الشهيرة التي كان يظهر بها شابلن في أفلامه لم تكن صورته الحقيقية، بل كانت مكياجا متقنا، حتى أن الجمهور المجنون به لم يكن يعرفه عندما كان يراه على صورته الحقيقية، ويروحون يبحثون عنه. كانوا يبحثون عن الفقير المتشرد ولم ينتبهوا أنه هو هذا الرجل الثري الأنيق الذي يقف بجوارهم.
كراهية الفقر
صورة شابلن في السينما: الفقير، اللين اللطيف، محب الخير لا يكاد قارئ مذكراته يجدها بين السطور، فقد كان قادرا أن يكون سوقيا في ألفاظه إن اقتضى الأمر ذلك! وعندما يحين وقت الحساب، وعقد الصفقات، وتجديد العقود، يثبت شابلن أنه رجل أعمال حاذق لا يقيم للصداقة وزنا طالما أن مصلحته تقتضي ذلك، ففي بداية مسيرة نجاحه الكبير أيقن أن “شهرته لن تدوم” وأن “عليه أن يحصد الثمار قبل أن تغيب الشمس” وتشبت بهذه الفكرة وهو يجدد عقوده مع مستخدميه قبل أن يقرر تأسيس شركته الخاصة.
وعندما طلبت أمه منه بعد شفائها أن يسخر موهبته لخدمة الرب ليكسب كثيرا من الأرواح، قال لها بهدوء إنه يمكنه فعلا أن يكسب الأرواح لكن ذلك لن يكسبه النقود! وعندما قيل له إن شقيقه لأبيه أدخل ملجأ الأيتام بعد وفاة أمه.. لم تهتز له شعرة.
وفي أيام البؤس كان يلوم أمه أنها تركت زوجها الأول الثري وحياة الرفاهية في جنوب أفريقيا لتتزوج من أبيه الممثل السكير الذي تركهم لقمة سائغة للفقر. ولعل هذه النفسية هي التي جعلت الفقراء غائبين من حياته الحقيقية وليس من أفلامه.
وفي حياته الخاصة فشل كثيرا في زيجاته، وتعرض لتهمة ابتزاز من عشيقة قديمة، ولم يهنأ بالصورة الرومانسية للمرأة المحبة التي تهيم به ولا بصورته كجنتلمان – كما صورها في أفلامه- إلا في أواخر عمره مع زوجته الرابعة والأخيرة.
هذه الصورة غير المشرقة لشابلن ليست غريبة عن الوسط الفني، لكنه كان فيها أكثر صدقا مع نفسه، فلم يدع لنفسه البطولات، وعندما زار اليابان قررت جماعة متطرفة اغتياله لجر أميركا إلى حرب مع بلدهم، ولم يجد مناسبا أكثر من السخرية منهم عندما يكتشفون أنهم قتلوا مواطنا إنجليزيا لا أميركيا فيقولون: أوه.. لا مؤاخذة!
______
*الجزيرة.نت