“لا مكان لا وطن “.. عبد اللطيف بن أموينة… سرديات بنفس ملحمي



أحمد الشيخاوي


خاص ( ثقافات )
صحيح أنه لا نص يملك الكمال، مهما روعيت تقنيات الكتابة وسمت مراتب التفنن في إبراز الثقل الإبداعي حدّ التحام التجربة بأسلوب حياتي غير قابل للاستنساخ، يمنحها بصمة القفز فوق النعوت المرتبطة بترجمة المكنون على نحو كرنفالي هش.
دائماً ثمة مناقب ومثالب وإن هيمنت الأولى، لذا وجب غربلة العديد من المفاهيم قصد إسقاط الهلامية أو المثالية أو الهالة والقداسة عن المنجز، مقابل الوظيفة التفكيكية التي بمقدورها تبسيط المعقد وتقويم المعوج وما يشوش على الذائقة أو يخدش جوارح التلقي السلس والسليم.
بيد أن الحرف يكون له شأن آخر ومغاير تماما لما تنطلق الذات من معاناة الاختمار الطويل وتراكمات ورواسب تحكي عن ترهل الذاكرة وفق منطوق ناري فوضوي الزمكان.
ولعله اتجاه مساير للتناسل الدلالي الزاخرة به باكورة أعمال المبدع المغربي عبد اللطيف بن أموينة، الإصدار العابر للأجناس والموسوم بــما يفيد نفي الحيز الوجودي للذات المتمردة وقد اعتصرتها المزاوجة بين القلق والشك حيال ما ينسج من شماعات وزيف معتم على ماهية الهوية والانتماء.
الكتاب ومنذ العتبات الأولى له، يطالعنا بنبرة غاضب محبط يتوسل سبل الاتزان والإنصات والإنصاف، بمعزل عن الخطابات التحريضية الحاقدة والمتشددة. لكنه تدلي الحمولة النفسية وتراخيها حدّ اعتناق النفس الملحمي غير المهادن في تفجير سرديات غير آبهة للتسلسل المنطقي أو ما شابه، أقل ما تهمس به يرفد في تيار تعرية الراهن وتوبيخه.
إذ وبعد الإهداء المشتعل حنينا إلى أمومة يجدر ادخارها كوقود للملمات والنوازل ومفاجآت المصير الموغل في شتى مناحي الاغتراب وتفتت الهوية وتجريب علقمية الفشل، تزأر الجملة الواحدة لتلون محطات وجدانية تتشرب الخبايا وتتنفس شطحات الخلاص عبر مسامات الذاكرة كما النزعة الاستشرافية والومضة المنكفئة على الحس الغيبي. 
صهيل خانة الموتى في حدود ما يمليه المشهد الجنائزي ويكرس لمنظومة سوسيوثقافية مؤشرة على تجليات انقراض لم ولن يشهد لها العالم مثيلا.
نظرية الشبيه المتكرر المحتكم إلى أنانيته المريضة في ممارسة ساديته على الكائنات من حوله، المتغني حدّ الهستيريا بدوغمائية التعاليم.
” العزلة اختراع رومانطيقي وشاعري لمواجهة العالم
أما الوحدة فهي حالة فضيعة لا تطاق
توجعني ــ وللأبد ــ هاته الأصوات،
هذا الحلم المنبعث من رماد العالم خلال هذا الصباح المشرق
لحظة خاصة من الحنين والانبهار
ها أني اسرق وقتا من زمني، من زمن الانتظار، من زمن العالم
كي أعيد ــ ما استطعت ــ تشكيل هذه الذات الصاخبة
كي أنصرف قليلا عن الفخاخ التي تترصّدني بين اللحظة والأبدية.
أحبُّ مشاهدة الغيوم وهي تعبر فوق رأسي راحلة،
خفيفة ورائعة
تذكرني بالطفولة البعيدة،
بزمن لا يستعاد، زمن سعيد.
أحبُّ أيضا تأمل السماء زرقاء، صافية ونقية إلا من بعض الغيوم
العابرة المهادنة البيضاء
السماء سقف حياتنا للأبد
السماء الآن هي أمي، سيدتي، حلمي، وجعي وانتظاري، مرآتي (الكبيرة) العظيمة التي أرى فيها حياتي، أيامي، جروحي ألمي، خساراتي وغدي الغامض
السماء (سمائي) دولاب التفاصيل والذكريات المفرحة والأليمة
السماء شاشة نراها، نتأملها، نتهجى حروفها وإيماءاتها نتفرج عليها، نطل منها، نرى الآباء والأمهات، المربين والأصدقاء، الأشقياء، العطل والألعاب، رسائل الحب البريئة والبليدة
نسمع حكايات الجدة، صراخ الصغار، ودردشة الجيران.
نشم رائحة الحلوى والشاي الساخن والحساء
نتذكر شمس المغيب
نشم رائحة عطور النساء والعذارى القادمات للتو من زفاف قريب
نسمع صوت المذيع الرياضي وأغاني الصباح الشجية
لكل منا سماؤه
يتأملها، يحتفل بها، يخاف منها أو يتركها
ينساها ليعود إليها، ذات لحظة من لحظات العمر المنفلتة”
إقحام المكون الطبيعي واستحضاره كتيمة للنص المفتوح الثري بالرمزية الواشية بتدفق المعنى متسربلا بالجدة والإضافة ومنبثقا من السائد والطرفاوي والمألوف.
شذرات مشوبة باشتهاء العري الذي قد تمنحنا إياه المرايا في محاكاة لذاتية السماء الكامنة فينا حين تطالنا مخالب المنفى وتزلزل أعماقنا صيحة الغريب في بيته. لكنها أشبه بترنيمة في واد إزاء ما يتلقفها من جداريات إسمنتية باردة تتنكر لصدى الصمت الذي ضمن أخاديده نتنفس أحلامنا الغائرة في طفولة بريئة ونائية جدا.
إحالات على الطراز المتفشي والموزّع على خارطة قصّ يروم السهل الممتنع ليورّط المتلقي ويطعنه بمعسول جماليات تأول النهاية. 
شعرية المابين المتسامقة والمموهة بفضاءات إبداعية عبرها اختارت الذات خانة القتلى… قتلى الفشل والإحباط والخواء والعبثية وأقصى تجليات جلد الذات، بلغة نثرية ذروة في بساطة المبنى وأوجا في المعنى الكريستالي الصافي المقيم في أقنعة ساخرة تلدغ الراهن وتوبّخ العالم وتستنطق الهوية والذاكرة..
*كاتب مغربي

شاهد أيضاً

العتبات والفكر الهندسي في رواية “المهندس” للأردني سامر المجالي

(ثقافات) العتبات والفكر الهندسي في رواية «المهندس» للأردني سامر المجالي موسى أبو رياش   المتعة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *