*هاشم صالح
من نافل القول إن الرومانطيقية هي إحدى أهم الحركات الفكرية والفنية والأدبية التي ظهرت في الغرب إبان القرن التاسع عشر. لنقل إنها ظهرت في أوروبا الغربية في أواخر القرن الثامن عشر، وازدهرت كليا في النصف الأول من القرن التاسع عشر. وقد ظهرت أولا في بريطانيا وألمانيا قبل أن تنتقل إلى فرنسا وإيطاليا وإسبانيا لاحقا. وقد ظهر هذا التيار باعتباره رد فعل على الجفاف العقلاني الذي ساد عصر التنوير، وكذلك باعتباره رد فعل على القواعد الكلاسيكية الصارمة للفن، وهي قواعد أصبحت قسرية وإكراهية أكثر من اللزوم. وأول شيء تتميز به الرومانطيقية، هو التركيز على الأنا الشخصية أو الأنا الذاتية. ففي السابق، كان الفنان أو الأديب يختفي وراء الأنا الجماعية للأمة أو العشيرة أو القبيلة. أما الآن فقد أصبح يتحدث باسمه الشخصي، ويعبر عن عذاباته الداخلية وعواطفه المجروحة بشكل غنائي مؤثر.
وتتميز الرومانطيقية أيضًا، بالرغبة في استكشاف كل إمكانيات الفن والأدب من أجل التعبير عن نشوة الحب أو جروحات القلب. وبالتالي فالرومانطيقية تعريفا، هي رد فعل القلب على العقل، أو انتقام القلب من العقل إذا جاز التعبير. فالكاتب أو الشاعر أو الفنان أو الرسام أو الموسيقار الرومانطيقي، يعطي الأولوية لمشاعره الداخلية وحميميته الجوانية، قبل أي شيء آخر، ولا يهمه رأي المجتمع في ذلك، سواء أكان راضيا عنه أم لا. إنه ينتهك القواعد الاجتماعية الصارمة والامتثالات الاجتماعية الخانقة، لكي يعبر عن مكنون صدره ويرخي العنان لمشاعره المتدفقة. بهذا المعنى فإن الرومانطيقية هي عبارة عن حساسية سيكولوجية أولا وقبل كل شيء آخر. فالإنسان الرومانطيقي يبحث عن الهروب من الواقع والعيش في عالم الخيال والأحلام الوردية البهيجة. وأحيانا يغوص في المالينخوليا والعذابات السحيقة. ذلك أن الإنسان الرومانطيقي حساس إلى أقصى الحدود. ولذلك فإن عالم الواقع بكل قساوته وإكراهاته وقيوده يجرحه ويخنق انطلاقته وحريته.
ولهذا السبب فإن كبار شعراء وفناني الرومانطيقية عبروا عن الانطلاقة والحرية بكل قوة وفرح وهيجان. يكفي أن نفكر هنا باسم الرسام الفرنسي الكبير: دولاكروا، أو باسم الشعراء الإنجليز: كوليردج، ووردزورث، وشيلي، وبايرون، وكيتس.. إلخ. كلهم كانوا من عشاق الحرية والتمرد. كلهم عاشوا حياتهم بشكل رومانطيقي رائع وتراجيدي في آن.
وينبغي أن نذكر أيضا كبير أدباء ألمانيا: غوته، فقد وصل بالرومانطيقية إلى ذروتها العليا من خلال آلام فيرتر أو فاوست، أو من خلال أشعاره الكبرى. لكن غوته لم يكن فقط روائيا، أو شاعرا، أو أديبا، وإنما كان مفكرا وعالما أيضا. وهكذا جمع في شخصه بين أشياء عدة دفعة واحدة. وهذا نادر. ولهذا السبب يعد مفخرة ألمانيا حاليا.
وتتميز الشخصية الرومانطيقية عادة بالنوستالجيا: أي الحنين إلى شيء غامض، مبهم، مضى وانقضى ولن يعود. وأكبر مثال على ذلك المفكر السويسري أو الفرنسي الشهير: جان جاك روسو. فقد كان كاتبا نوستالجيا – أي حنينيا – بامتياز. وكثيرا ما تنضح كتاباته واعترافاته بالحنين إلى الحبيبة الماضية أو الأيام المنصرمة أو الذكريات الملوعة.
ولهذا السبب قال غوته جملته الشهيرة: فولتير أغلق العالم القديم، وروسو دشن العالم الجديد. وكان يقصد بذلك أن فولتير ختم العصر الكلاسيكي والعقلاني في الفن والأدب والفكر، وأن روسو افتتح العصر الجديد للحساسية الفكرية والأدبية: أي الرومانطيقية بالذات. نعم لقد كان روسو أول الرومانطيقيين، لأنه كان يحب الطبيعة جدا ويرمي بنفسه في أحضانها كأنها الأم الحنون. وهذه هي أيضا صفة أخرى أساسية من صفات الرومانطيقية. فلا يمكن أن تكون شخصا رومانطيقيا إن لم تعشق الطبيعة عشقا وتنصهر فيها انصهارا كاملا.
نعم إن الشخص الرومانطيقي يحب الطبيعة ويناجيها ويبثها همومه ومشاعره وعواطفه كأنها حبيبة أو عشيقة أو صديقة. وفي أدبه تكثر صور الأشجار والأنهار وخرير السواقي وصوت العندليب ونسمات الهواء العليل.. إلخ. هذا بالإضافة إلى ضوء القمر في الليالي الجميلة.
أعطني الناي وغني
فالغنا سر الخلود
وأنين الناي يبقى
بعد أن يفنى الوجود
هل اتخذت الغاب مثلي
منزلا دون القصور
فتتبعت السواقي
وتسلقت الصخور
هل تحممت بعطر
وتنشفت بنور..
جبران خليل جبران أحد أعظم الرومانطيقيين العرب. لم أقرأ قصيدته مرة إلا وأصابتني رعدة شديدة، وذهلت عن نفسي، وبخاصة عندما تسمعها من فم فيروز بعد تحوير خفيف وناجح جدا.. هل سمعت صوت الملائكة؟
وفي فرنسا يطلقون مصطلح الرومانطيقية على ذلك التيار الأدبي الذي ابتدأ نحو عام 1820 واستمر حتى عام 1850 تقريبا. وكان على رأسه الشاعر الكبير فيكتور هيغو، لكن كان من أعلامه أيضا كوكبة من كبار الكتاب والشعراء ليس أقلهم ألفريد دوموسيه، وفيني، وجيرار دونيرفال، ولامارتين، وسواهم كثيرون.
وقد دخل الرومانطيقيون في معركة حقيقية مع الكلاسيكيين عندما أصدر فيكتور هيغو مسرحيته الشهيرة باسم «هيرناني». وحولها دارت معركة كبيرة انتهت بانتصار التيار الرومانطيقي على التيار الكلاسيكي الذي هيمن على القرنين السابع عشر والثامن عشر.
وبالتالي فالرومانطيقية كانت تمثل الحداثة في وقتها، والكلاسيكية كانت تمثل التيار التقليدي الراسخ الذي يمنع الفنان من التنفس بحرية وانطلاق. ثم جاءت الحداثة الشعرية على يد رامبو، لكي تمثل انقلابا على الرومانطيقية وتجاوزا لها. وحدث الشيء ذاته في الشعر العربي أيضا.
وفي ألمانيا كان يقف على رأس المدرسة الرومانطيقية كلٌّ من الشاعرين الكبيرين غوته وشيلر، ثم سار على نهجهما بعدئذ، شعراء وفنانون كبار ليس أقلهم هولدرلين، ونوفاليس، والموسيقار الكبير فاغنر صديق نيتشه وأستاذه وعدوه في آن معا.
ويعد النقاد أن فاغنر يمثل ذروة الموسيقى الرومانطيقية. وأما على المستوى الفلسفي فيمكن اعتبار فيخته بمثابة الممثل الأعلى للفلسفة الرومانطيقية، أي فلسفة الحرية الذاتية للفرد. ومعلوم أنه هو الذي هيج الشعب الألماني وأيقظ نزعته القومية ضد الفرنسيين عن طريق خطاباته الملتهبة الموجهة إلى الأمة الألمانية. وقد أخذ القوميون العرب عنه ذلك لاحقا عندما حاولوا إيقاظ نزعة القومية العربية، بغية تمييزها عن القومية التركية أو القومية الفارسية.. إلخ.
فقد ضرب فيخته على الوتر الحساس، وعرف كيف يحرك مشاعر الأمة الألمانية، ويذكرها بأمجادها ويعطيها الثقة بنفسها، لكي تنطلق من جديد وتصنع المعجزات. وبالتالي فالشعوب بحاجة أحيانا إلى مفكرين رومانطيقيين ممتلئين حماسة، للتغيير وصنع المستقبل والمغامرة في المجهول. وهذه هي أيضا إحدى سمات العقلية الرومانطيقية. فالرومانطيقي شخص يحب الأسرار والمجاهيل والانخراط في عملية استكشافها، حتى لو أدى به ذلك إلى حتفه في نهاية المطاف.
وأخيرا فإن الرومانطيقي عكس الشخص الواقعي، إنه لا يحسب أي حساب للعراقيل والصعاب. ولهذا السبب، فإن الواقعية جاءت بعد الرومانطيقية مباشرة وليس قبلها. فبعد أن تعب الكتّاب والمفكرون من العقلية الرومانطيقية جاءت العقلية الواقعية، لكي تحل محلها وبخاصة في مجال الرواية والفكر. وهذه هي حال التاريخ: مدٌ وجزر، صعود وهبوط. وكلما تعب الإنسان من شيء انتقل إلى نقيضه والعكس بالعكس. فالواقعية أيضا تعبوا منها لاحقا، ولذلك جاءت بعدها مدرسة فنية جديدة هي مدرسة ما فوق الواقعية، أي السريالية. وعلى هذا النحو تتعاقب المدارس الفنية والأدبية بعضها وراء بعض.
أخيرا نقول: لقد أعطت الرومانطيقية للعالم بعضا من أجمل رواياته وأشعاره وسيمفونياته ولوحاته الفنية الكبرى. يكفي أن نذكر هنا اسم ألفريد دوموسيه الذي كان يتجول في الطبيعة في غابة فونتنبلو القريبة من باريس التي ألهمته إحدى أجمل قصائده: ذكرى أو ذكريات.
ويكفي أن نذكر اسم موزار وبيتهوفن والسيمفونيات الخالدة، هذا من دون أن ننسى فاغنر. يكفي أن نذكر رواية جان جاك روسو: «هيلويز الجديدة»، أو قصائد لامارتين عن فصل الخريف أو عن البحيرة التي كان يلاقي محبوبته على ضفافها. ثم ماتت المحبوبة بداء السل، وهي في عز شبابها، فراح يبكيها متفجعا على شاطئ البحيرة، متذكرا أيامه الهنيئة معها. وقد ترجمت إلى العربية أكثر من مرة. وبالتالي فلا يمكن لأحد أن يقلل من أهمية العطاء الذي قدمته الحركة الرومانطيقية للآداب العالمية.
________
*الشرق الأوسط