معتز محسن عزت
خاص ( ثقافات )
تمر تلك الأيام وفي جعبتها بصيص من السعادة وسط أزيز الطائرات وأصوات الدانات ودماء الأبرياء، فرغم تلك المحن يأتي علينا شهر مايو حاملاً في ثناياه ذكرى ميلاد علم من أعلام الإنسانية فناً وفكراً هو الشاعر والرسام والفنان والروائي والحكيم (رابراندنث طاغور) أبو البيان البنغالي الذي ملأ العالم حكمةً وفصاحةً ما بين الأوزان والسطور المنثورة كاللؤلؤ المنثور.
العالم كله يحتفل بطاغور لمرور 155 عاماً على ميلاده الذي كان في 6 مايو من العام 1861 وسط عائلة ثرية وموهوبة وعريقة بمدينة كلكتا عاصمة ولاية البنغال الغربية بالهند وسماه أبو باسم (رابراندا) أي (الشمس) باللغة البنغالية وقال الأب عن هذا الاسم:
(دعوته رابندرا ومعناه الشمس لأنه سيجوب العالم وسيهتدي الناس بنوره).
هناك أصوات هامسة من عالم الغيب يهمس في أذن الأب لكي ينقش على دفاتر المجهول ما ينتظره العالم من هذا الوليد الجديد الذي ولد متمرداً متحدياً باحثاً عن الجديد وغير المألوف من أجل أن تستمر الحياة وهذا ما وجده في تلك الأسرة التي مازجت بين العادات الشرقية والغربية حيث الميزان بين التقاليد الراسخة والعقل المستنير.
رفض طاغور التعليم في المدارس النظامية معللاً ذلك بقوله:
(كان علينا أن نجلس جامدين كالتماثيل المتحفية فاقدين الحياة مستسلمين لانهمار الدروس علينا مثلما تنهمر حبات البرد على الزهور).
هل استسلم الطفل لهذا العيب أم لعقله رأي آخر؟!
اكتشف الطفل نفسه بحبه للبيان الرصين والكلم الجميل عبر معانقته لأسفار (الأوبنيشاد) تلك الأسفار التي عانقت عقل غاندي ليستلهم منها معاني المقاومة دون دماء ويستلهم منها طاغور عمق المعاني الإنسانية نحو بيان يبقى على مر العصور لتكون الكلمة المفتاحية نحو نهله من أشعار الإنجليز.
أحضر له أبوه معلمين خصوصيين لكي يحمي عقل ابنه من الصدأ والتيبس ثم بعدها أرسله إلى إنجلترا لدراسة القانون ولكن لم يجد ضالته في تلك الدراسة ليكتشف نفسه متجهاً نحو واحة الأدب ما بين شكسبير وملتون وشيلي ووليم بليك وبايرون ليعود لوطنه حاملاً عناقيد الشعر المنثور دون إجازة القانون المنتظرة.
في ظل تلك الرحلة المتباينة في جوهرها وتحت نور شمس الهند الساطعة أفرز طاغور ديوانه الأول (أغاني المساء) بلغته الأم البنغالية واجداً ترحيباً كبيراً من النقاد واصفينه بـ(شيلي البنجال) رغم تشبع الديوان بروح تشاؤمية كبيرة لكن تتوالى أمواج التفاؤل من رحم الديوان الأول بديوان ثان (أغاني الصباح) والذي سار على ثلاثة محاور: (الحياة – الإنسان – الطبيعة).
توالت الدواوين ما بين (خطوط ومسطحات – الزورق الذهبي – تشتيرا – منية القلب – الهارب) وتأتي درر الدواوين التي ساهمت في عالميته وهي (جيتا نجالي) أي قربان الأغاني والذي كتبه في العام 1909 وتُرجم إلى الإنجليزية في العام 1912 مزيناً بمقدمة الشاعر الأيرلندي الكبير (وليم بتلر ييتس) الذي احتفى بناظمه وقابله في لندن، ومن هنا كانت أواصر الصداقة القويمة في رحاب الأدب.
في العام 1913 تعلن الأكاديمية السويدية عن فوز رابراندنث طاغور بجائزة نوبل للآداب كأول شرقي وآسيوي يفوز بها ضمن فطاحل الأدباء عالمياً (سلمى لاجرلوف – رينيه سولي بردوم – تيودور مومسن – روديارد كبلنج – موريس مترلينك) وذلك لـ:
(شعره العميق في الحساسية والحيوية والجمال، والذي بواسطته وبمهارته الفائقة جعل من فكره الشعري عبر لغته البنغالية والإنجليزية الخاصة جزءاً من الأدب الغربي).
تبرع بقيمة الجائزة لمدرسته وأكد على انتمائه للوطن بكل معاني الكلمة خاصةً عندما تنازل عن لقب (سير) ووسام الفروسية الذي منح له في العام 1914 احتجاجاً على مذبحة أمريتسار التي شهدها إقليم بنجاب وقُتل من خلالها 379 مدنياً من الرجال والنساء والأطفال في عشر دقائق في أبريل 1919.
كان طاغور زعيماً مدنياً وأدبياً للقضية الهندية محفزاً قراءه على عدم نسيان حلم الاستقلال مشجعاً الهندي على أن يبحث عن نفسه ويفتش عن قدراته لأنه بغرس زروعه سيجني ثماره أول نقطة في حلم الاستقلال وحروفها النورانية.
توالت أعمال طاغور ما بين الرواية والمسرح والقصة القصيرة وسليقة الشعر والحروف الموزونة طاغية على الأشكال الأدبية الأخرى علاوة على تلحينه لأغان خالدة وامتهانه للرسم وهو في السبعين من عمره قائلاً:
(إن لوحاتي عبارة عن خطوط مرسومةً شعرياً).
حينما يزور طاغور بلداً من البلاد ترتدي تلك البلاد حلة السعادة كما حدث أثناء زيارته لمصر سنة 1926 فقد زارها من قبل سنة 1878 وهو في السادسة عشرة من عمره وأتى لها ثانيةً بعد نضج الحركات التنويرية بها والتي شهد ميلادها في زيارته الأولى حيث بدأها بزيارة الإسكندرية في احتفال ضخم على مسرح الحمراء وسط حضور كبار الشخصيات ثم زار القاهرة واستقبله أمير القوافي أحمد شوقي في منزله (كرمة بن هانئ) شهد هذا اللقاء كبار السياسيين والمفكرين (سعد زغلول – أحمد لطفي السيد – حافظ إبراهيم – محمد حسين هيكل – عبد العزيز البشري)، وزين موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب الاحتفال بأحلى أغانيه.
شكر طاغور الحفاوة المصرية باستقباله وقت تأجيل انعقاد جلسة بمجلس النواب تكريماً لشخصه قائلاً:
(إن مصر بلد شرقي ومهد للحضارة القديمة وقديماً كان الشرق مهبط الشعر ومهد الشعراء، وقديماً كان الشرقيون أكثر الناس احتراماً للشعر وإعزازاً للشعراء تلك ميزة الشرق المعنوية وهي ميزته الكبرى وإني سأحمل في جعبتي درراً نفيسة من عقد الشعر العربي لينهل منه أبناء بلادي من الأدباء).
أطلق طاغور على غاندي لقب (المهاتما)، أي (روح عظيم) وأطلق غاندي على طاغور لقب (الحارس العظيم) حينما نعاه في 7 أغسطس من العام 1941 يوم وفاته قائلاً:
(لم يمت طاغور ولم يختفِ الحارس العظيم ولم تحلق روحه في الفضاء بل عادت من حيث أتت إلى عالمها الأعظم محققاً نبوءة أبيه عندما سماه باسمه لإيمانه بأنه نور سيجوب العالم وسيهتدي به الجميع).
حقاً ولازال النور ساطعاً في أفق العالم الفسيح.