البوارق الزجلية في ديوان “همس القوافي” لعهد مسكين


*د. الحبيب الدائم ربي


خاص ( ثقافات )
يبدو أن الزجل بالمغرب، و بعد أن ظل عُرضة للتنقيص والتجاهل لعقود طويلة، بدأ، اليوم، يفرض صوته بقوة، نظرًا للتراكم الكمي والنوعي الذي حققه في السنوات الأخيرة، إن على صعيد الدراسات الأكاديمية، أوالأنشطة والتظاهرات التي تقوم بها بعض الإطارات الجمعوية، أو على مستوى الأعمال والدواوين المنشورة. وبغضّ النظر عن الاعتراضات التي مازالت ترى بأن الزجل “صار ملجأ لمن تعوزهم لغة الشعر الفصيح”، وهي اعتراضات ما انفكت ترافق كل “إبدال إبداعي” جديد- ضمن جدلية الصراع الطبيعي بين الفنون والأجناس الأدبية- فإن مؤشرات كثيرة توحي بأننا داخلون في “زمن الزجل”، لامحالة. ولاقيمة للأحكام التي تصادر على “موجة الزجل”، بكونها، في مجملها،غُثاء أحوى. وأن البقاء للقصيدة الفصحى. خاصة وأن أسماء ونصوصا من هذا التفريع الشعري “العامي”، وهو عريق عراقة الفصيح، قد حققت اختراقا إبداعيا لايمكن إنكاره. بحيث غدت القصيدة الزجلية ندا قويا لشقيقتها الفصحى. وكلتاهما، في المحصلة ، فصيحة بمعنى من المعاني . سيما عندما تبلغان، معا، شأوا في سلم الإجادة والجمال. ومكمن الصراع ، إن وُجِدَ، هو” في جهة أخرى”، وليس بين التعبيرين المتضافرين. إن الأمر لايتعلق بنماذج زجلية محدودة يمكن الاستشهاد بها عند الحاجة للتأكيد أو للنفي، وإنما هي ظاهرة باتت تبشّر بفيض معتبر من المتون والتجارب المتنامية. والعبرة هنا ليست بالرواد الماهدين، في المشهد الزجلي المغربي الراهن،وحسب، وإنما، كذلك وبالأساس، في الامتدادات الواشية بالوعود، يتقاسمها الزجالون والزجالات معا، على وجه المساواة. ويكفي أن نتوقف، في هذه الفسحة، عند اسم نسائي(والأسماء وفيرة) نظن أنه ستكون لخطوته الأولى ما بعدها في مسافة الألف ميل وميل. وذلك باعتبار الإشارات الإيجابية التي ترجّح فرضية أن “همس القوافي” ليست مجرد نزوة عابرة لدى الزجالة الشابة عهد مسكين. التي نعتقد أن ديوانها الأول هذا يتخطى ـ نصياـ وفي بعض نماذجه، عتبة البداية، لينخرط ، بتردد أقل، في “الحراك الزجلي” بالمغرب. لا من حيث الثيمات والقضايا المطروحة،وحدها، وإنما كذلك من حيث المعجم وتوظيفاته في بناء الصورة الشعرية وصوغها الجمالي. صحيح أن أغلب المواضيع والأغراض التي يحتويها الديوان(المكوَّن من تسع عشرة قصيدة) لاتخرج عن مألوف الشعراء والزجالين. فهي تحفل بتمجيد القيم الأصيلة من حب وخير وجمال، وبنبذِ ما يخالف ذلك من قيم وممارسات. هكذا يحضر “الحب” في تجلياته المختلفة: “حب الوطن، حب الأم، حب الأب، حب الأخ، حب الحبيب” وقف ما جاء في التقديم الذي صدّرت به الأستاذتان سميرة شركي هالي وحنان الناصري هذا الديوان. ويحضر معه البوح والعتاب والهجر والشجن، إلى جانب مواساة البؤساء والمظلومين و التشكي من خذلان الزمان وتقلّب الصحاب والخلان. مع استيحاء للحكم والمواعظ والأمثال. وفوق ذلك صيغة من صيغ التوثيق جماليا لتمظهرات معجمية وثقافية باتت مهددة بالاندثار. ولئن كانت هذه المعاني مطروحة في الطريق، بتعبير الجاحظ، فإن ما يَصنع الفرق لدى الشاعرة هو كيفيات الاشتغال الفني. بدءا بالمعجم فالجملة الشعرية وما يستتبعها من صور وأخيلة. ولعل الشاعرة عهد مسكين توفقت في متح مفرداتها وتعابيرها من مأثور العامية المغربية التي كانت(وماتزال ) متداولة بالأوساط الشعبية بالمغرب العميق…وهي عامية وإن اختلفت، أحيانا، في حِدّتها ورِقـّتها، عن دوارج المدن العريقة فإنها تظل مفهومة من قبل الجميع. فما خلا بعض الصيغ المتفاصحة، كما هو شأن العنوان (همس القوافي)، مثلا، وما خلا بعض التحويرات البسيطة، المراوحة بين الدارج والفصيح، يظل المعجم مندغما في مقول الطبقات الاجتماعية البسيطة، بكل وهجه وحرافته ، بل وعذوبته كذلك. هكذا تحضر كلمات وصيغ من قبيل: الهبال، يمّا، لله قيلوني، وليت هبيلة، فوق خدّيتي، خيّي، بويا نسولك، فهمينا أش واقع أمي طامو؟، الفيلم تسالى، إلخ. إذا ما اقتصرنا على بعض عناوين قصائد الديوان…والمؤكد أن ملفوظات وتعابير كثيرة تنحو هذا المنحى في ثنايا مجمل متون الإضمامة. بل وحتى تلك التي تنحو نحوا فصيحا لا تتقصّد ذلك وإنما لإكراهات” إملائية ونحوية” فصيحة يتم إخضاع الزجل لها، مما يفقده جزءا من شاعريته الشفاهية. ذلك أن الكتابة تضيّق على الزجل رحابة المشافهة بتلويناتها التلفظية. لنتأمل هذا المقطع، الذي فقد جزءا مهما من جماليته جراء الكتابة: “مغفولة ما رذّيت لخصايلك البال ، لمعاني مضربين هذ شحال، لهبال بَلهبال،لي يمشي البير بلاحبال والسوق بلامال،كالس مع الجماعَ، والكلامو مايرد البال، الناس تمد لك يد ليمَن وانت تمد يد شمال، كن رديتْ البال كاع منطيح فهذ البال”(ص. ص. 13 و41) .. بحيث كان من الممكن اقتراح صيغة أخرى لكتابته كي يحافظ على رونقه، كأن يتم رسمه هكذا” مغفولة ماردّيتْ لخصايلك البال، لمعاني مضاربين هاذي شحال، لهبالْ بَن لهبال، اللي يمشي للبير بلاحْبال، والسوق بلا مال، كَالسْ مع الجماعة ولكلامو مايرد البال، الناس تمد لك يد ليمن وانت تمد يدّ شمال…كون رديتْ البال كاع ما نطيح فهاذ لهبال”. لاشك أن هذا الاقتراح بدوره لايخلو من تحفظات هي من صميم اشتراطات القيود الشكلية الفصيحة للإرث اللغوي الشفاهي . والتي من تداعياتها أيضا بهوت المعاني وغـَمَم الصور جراء التوزيع الغرافي(الخطي ) والإيقوني للأشطر والسطور الزجلية. ولانظن أن هذا الإكراه يواجه الزجالين وحدهم وإنما هو إجراء تقني بالأساس يفرضه الرسم الإملائي حتى ضمن اللغة العربية نفسها، ما لم نقل جميع اللغات. ومع ذلك فإن أثر المشافهة(القوي) لايغيب كلية خلال فعل التدوين والكتابة. إذ نلمسه، جليا، في ديوان الشاعرة مسكين.. ولربما تكمن التحديات أكثر في مدى قدرة الخطاب الواصف الفصيح على تشخيص دقائق القصيد الزجلي، من يدري فقد يستدعي الزجل مقاربة هي بدورها، “دارجة”،حتى لايتم إغماط حقه في تأويل بعيد عن الشطط ،قريب من روح النص…وعليه فإن “نقدا ثقافيا”، من طبيعة هذا الزجل، هو المؤهل لإبراز الأبعاد النفسية والاجتماعية لمثل هذه الصورة، التي نستسمح لإعادة رسمها رسما يقّرب من تلفظها الشفوي:” بقيتي فيّ ياالكاس، هزيتي الهم وأنت طْفيل صغير، البرّاد يكبّ فيك حَر الجمرة، وأنت ماقادر تقول: باراكا من هاذ الحكَرة، من حَرّكْ يا البراد راه يتكوى من الكَبّة”(ص.ص. 42و43). علما بأن صورا أخرى طافحة بالحياة تهيمن على جل قصائد “همس القوافي”. من ثم فأي تأويل (لها) يتجاهل المعطى السوسيوثقافي للمجتمع المغربي لا يعدو أن يكون مجرد “تأويل مفرط”، بالمعنى الذي قصده أمبرتو إيكو. لذا فإن أي وساطة بين الديوان وقارئه لابد وأن تخون جزئيا أو كليا فحوى نصوصه. 
لم يكن غرضنا، هنا، تقديم تحليل مفصل لمنجز الشاعرة عهد مسكين ولاتقويم شاعريتها في باكورتها الإبداعية، وإنما تغيّيْنا لفت الانتباه إلى ما قد يحبل به ديوانها من ممكنات زجلية بالوسع الدفع بها إلى آفاق أرحب، من شأنها أن تخصّب المشهد الأدبي ببلادنا، سيما وأن هذه الشاعرة لاتمثل سوى بُرعم زجلي من حديقة شعرية حابلة بالثمار، وبوارق تشي بماءٍ ورَوَاء.
**
همس القوافي، عهد مسكين، مطبعة فاس بريس، 2016.

شاهد أيضاً

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي منال رضوان     المثنوى المعنوى، وديوان شمس لمولانا جلال …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *