*محسن المحمدي
عرفت البشرية عبر تاريخها الطويل منارات فكرية كثيرة، كانت عبارة عن مراكز علمية قائمة الأركان، كأكاديمية أفلاطون التي تأسست سنة 387 ق.م، في إحدى ضواحي أثينا، وبالضبط بالقرب من حدائق البطل الإغريقي أكاديموس. وهذا ما يفسر لنا التسمية الشهيرة «الأكاديمية» التي لا تزال سائدة حتى اليوم. فهناك ألقى أفلاطون دروسه وألف كتبه. وكان لا يسمح بالدخول إليها إلا لمن كان متميزًا في الرياضيات، إلى درجة أنه قد نقش على باب الأكاديمية العبارة الشهيرة: «من لم يكن مهندسًا فلا يدخلن علينا». وانتقلت الأكاديمية من بعد أفلاطون، إلى وسط المدينة. وظلت مزدهرة حتى أمر الإمبراطور الروماني، جوستينيان، بإقفالها نهائيًا عام 529، لأنه كان يعتبرها معهدًا وثنيًا. وكذلك نجد مركزًا آخر لتلميذ أفلاطون، وهو ليسيوم أرسطو، الذي ظهر سنة 335 ق.م. ناهيك بالمراكز التي انتشرت في الشرق جراء التلاقح بين الثقافة الإغريقية والثقافة الشرقية، التي دفعت بها فتوحات الإسكندر المقدوني إلى أبعد مدى. ونذكر هنا، مركز الإسكندرية وأنطاكية وحران والرها وجنديسابور ومرو.
وسنتوقف عند مدرسة الإسكندرية، لوضعها المتميز، وتأثيرها العميق في توجيه الدراسات الفلسفية والعلمية، قبل مجيء الإسلام وبعده.
مدرسة الإسكندرية:
يرجع تأسيس مدينة الإسكندرية إلى الإسكندر المقدوني سنة 331 ق.م. وعندما مات ببابل سنة 323 ق.م، تولى حكم مصر أحد رفاقه، وكان مقدونيًا، وهو بطليموس. وللذكر، فإن بطليموس هذا، ليس هو عالم الفلك الشهير الذي عاش في القرن الثاني للميلاد، وصاحب كتاب المجسطي، بل المقصود هو الحاكم المنتمي إلى البطالمة الذين تعاقبوا على الإسكندرية، وكان له الفضل في تأسيس متحف الإسكندرية، أي معهدها العلمي. كان الإسكندر المقدوني وهو ينشئ مدينة الإسكندرية، يؤسس لمشروع حضاري هائل. فغزوه للشرق ككل، كان إعدادًا لحكمة جديدة، هي الحكمة الإسكندرية التي دامت سبعة قرون، أي من القرن الـ4 ق.م، إلى حدود القرن الـ3 الميلادي. وٳن كان هناك بعض الباحثين، ممن يؤكدون أن مدرسة الإسكندرية استمرت مدة أطول من ذلك، أي حتى بعد ظهور الإسلام.
وقد غلب على حياة الإسكندر الأكبر وبطولاته في الحرب، في كثير من الأحيان، روايات خرافية. وعلى الرغم من ذلك، فإنه لا يمكن إنكار أن شخصيته وقوته الفكرية والروحية، كانت المسؤولة عن ذلك التحول العميق الذي حدث في الإسكندرية. ففتوحات الإسكندر المقدوني الواسعة لكثير من بلاد آسيا وأفريقيا، في القرن الرابع قبل الميلاد، كانت سببًا رئيسيًا في انتشار الثقافة اليونانية في الشرق انتشار النار في الهشيم. فالإسكندر الأكبر، كان قائدًا عسكريًا شجاعًا، بحكم تربيته العسكرية الفذة، التي سمحت له بتحقيق طموح والده، فيليب، السياسية. وهي جمع شمل اليونانيين واسترجاع المستعمرات اليونانية. وهذا ما تحقق وأكثر، حين وصل الإسكندر حتى الهند، كما هو معروف. لقد كان يقتدي بنموذج المحارب المثالي، الذي ما هو إلا أخيل بطل ملحمة الإلياذة وأشجع رجال اليونان في زمنه، وبطل حرب طروادة، وهرقل بطل الإغريق ابن إله الآلهة زيوس من الفانية ألكمين، الذي اشتهر بقدرته الفائقة في القضاء على أفظع الأهوال.
تلقى الإسكندر المقدوني منذ حداثة سنه، دروسًا في الإلياذة، على يد أستاذه أرسطو الفيلسوف. وهذا ما جعله يستلهم أبطال الإلياذة، ويتصرف كأنه على صلة بالآلهة. وما زاد من هذا الإيمان، أن المصريين اعتبروه فرعونًا، ومنحوه ألقابًا من قبيل «هورس»، أو الأمير القوي حامي البلاد من هجوم الأعداء، «صديق آمون»، «ابن رع». إضافة إلى هذا، كان الإسكندر رجلاً له حكمة الفيلسوف، بحكم أنه كان تلميذًا لأرسطو فيلسوف اليونان بامتياز، وصاحب مدرسة الليسيوم في أثينا، الذي وطد في نفس تلميذه إرادة نشر الفكر اليوناني في البلاد التي يفتحها. ناهيك بأن تربية أرسطو للإسكندر، جعلته يصطحب معه، في فتوحاته الآسيوية، العلماء والأدباء، بل حتى الفلاسفة، ومن بينهم «بيرون»، الفيلسوف المشهور. الأمر الذي سيجعل الشعب اليوناني يختلط مع الوقت، بالشعب الآسيوي. فغزوات الإسكندر، جعلت العادات والتقاليد الإغريقية تذاع على نطاق واسع. فهي صبغت آسيا بالصبغة الهيلينية. وهنا، تجدر الإشارة إلى أن المؤرخين، عادة ما يقسمون الحضارة اليونانية إلى عصرين: عصر «هيليني» وعصر «هيلينستي». الأول، هو عصر الحضارة اليونانية في نشأتها وتطورها ونضجها في بلاد اليونان ومستعمراتها بوجه عام، وحول أثينا بوجه خاص. وبدأ قبل القرن السادس، وامتد حتى انتصار الدولة المقدونية على بلاد اليونان. أما العصر الثاني، فبدأ عند الإسكندر، وامتد قرونًا عدة بعده. وامتاز بانتشار الحضارة «الهيلينية» ذاتها، لا في بلاد اليونان ومستعمراتها وحسب، وإنما في حوض البحر المتوسط بين مصر وإيطاليا، وفي الشرق الأدنى، وفي شرقها الأقصى أيضًا، إلى درجة أنه يحكى أن الإسكندر أرسل آلافًا من أبناء ضباط الجيش الفارسي، ليتعلموا اللغة اليونانية. الأمر الذي يبرر كيف أصبحت اليونانية لغة عالمية ومسيطرة آنذاك. ففي هذا العصر السكندري، وفي مدينة الإسكندرية بالضبط، تمت ترجمة التوراة من العبرية إلى اليونانية.
كان أغلب سكان الإسكندرية مصريين. لكن الطبقة الحاكمة كانت مقدونية أو إغريقية. وعندما كثر ثراء المدينة، شد الرحال إليها كثير من الإثيوبيين والأحباش والأفريقيين، الذين انحدروا مع النيل، والسوريين والفرس والعرب والهندوس. وسرعان ما صارت الإسكندرية أكثر مدن الدنيا اصطباغًا بالطابع العالمي.
تبقى الإشارة إلى أن المتحف كان ممولاً حكوميًا، وكانت أبوابه مفتوحة لمختلف العلماء والزوار. كما كان يشرف عليه، في غالب الأحيان، يونانيون قادمون من أثينا، ومنهم تلاميذ لأرسطو. ناهيك بأنه كان به نظام «كالداخلية»، بحيث يعيش فيه العلماء عيشة مشتركة كرهبان دير من الأديرة، تتكلف الحكومة نفقاتهم.
إن البحث في مدرسة الإسكندرية وفلسفتها، يحتاج إلى دراسة كاملة. ونحن نريد فقط، إلقاء نظرة على هذا المركز، الذي سيكون تأثيره قويًا على الثقافة الإسلامية. وسنعمل الآن على ذكر بعض الأسماء اللامعة التي كتبت بالخط العريض في التاريخ، والتي ستلقى اهتمامًا واسعًا عند المسلمين ترجمة وبحثًا وإضافة، مثل إقليدس في القرن الـ3 ق.م، فهو تلقى تعليمه في أثينا، ودرس الرياضيات في أكاديمية أفلاطون. واستمد بعض معارفه من الفيثاغوريين. أما منهجه فقد كان أرسطيًا. أما نبوغه فسيكون بالإسكندرية في عهد بطليموس الثاني. إذ كان على اتصال بالمتحف والمكتبة. له كتاب مشهور اسمه «الأصول»، وهو كتاب جامع لعلم الهندسة، ومرتب بإحكام. إنه ثمرة تاريخ الرياضيات إلى زمانه. ونجد أيضًا، علمًا آخر معروفًا جدًا، هو أرخميدس، صاحب نظرية الأوزان والروافع. وقد زار الإسكندرية وأقام بها مدة طويلة في القرن الثالث قبل الميلاد. وإراتوستين، الذي عاش خلال الفترة مابين 276 ق.م و194 ق.م، ووفد إلى الإسكندرية في عام 253 ق.م، ليقضي فيها بقية عمره، وليشغل منصب أمين مكتبة متحف الإسكندرية العظيم. وبقدر ما كان فلكيًا، فهو جغرافي أكثر. وقد أصبح مشهورًا نظرًا لطريقته في حساب محيط الأرض.
لكن لا يمكن المرور على الإسكندرية من دون الوقوف على باعها الكبير في مجال الطب. وهنا نستحضر الطبيب غالينوس، المتوفى سنة 199، الذي انطلق من أعمال أبقراط الملقب بأبي الطب، المتوفى سنة 377. وهو صاحب القسم الأخلاقي للأطباء الشهير، الذي وثقه لنا ابن أبي أصيبعة، في كتابه «عيون الأنباء في طبقات الأطباء» ليزيد عليه. فقد كان يقوم بتشريحات للحيوان الحي والميت، لدراسة بنيته الداخلية، وعقد مقارنة بينها وبين الإنسان. كما كان أول طبيب يثبت أن الشرايين والأوردة تحملان الدم. وأعتقد أيضًا، أن المخ هو مصدر التفكير وليس القلب، كما كان يعتقد أرسطو وغيره. كما كان يشجع على العلاج بالفصد، وتطهير الأمعاء، وإعطاء أدوية تسبب القيء. إن أعمال غالينوس، ستكون منطلقًا للطب العربي – الإسلامي، الذي سيعمل على إضافة وتصحيح بعض معطياته، مع كل من الرازي المتوفى سنة 925، وله كتاب «الشكوك على غالينوس»، ومع ابن سينا المتوفى سنة 1037، بكتابه «القانون في الطب»، وأبو القاسم الزهراوي، المتوفى سنة 1013، شيخ الجراحين بالأندلس، بكتابه «التصريف».
ما أشبه ما حدث في الإسكندرية من تلاقح حضاري، بما حدث ببغداد في بيت الحكمة المأموني، وما حدث بالأندلس أيضًا. فإذا كانت اللغة القياسية في العصر السكندري هي اليونانية، فإنها أصبحت هي العربية في العصر الإسلامي. فليس هناك حضارة خالصة أبدًا بل هناك دار عالمية للفكر الإنساني.
_______
*الشرق الأوسط