الصغير أولاد أحمد..صانع قنابل الشعر وصواعق النثر


*عمر ح الدريسي

خاص ( ثقافات )

من العَصِيِّ على الإنسان أن يُقرر “مكان ولادته”، بل من المستحيل، على أيًا كان، أن يُحدد ذلك.. والشاعر محمد الصغير أولاد أحمد، ابن قرطاج وتونس الخضراء وسيدي بوزيد، ومنذ أن فتح عينيه والحوض المتوسط، يُصبح يوما بعد يوم، من أكبر الأمكنة في العالم تراجيديًة بامتياز.. ؟!
تلك التراجيديا التي أنتجتها، وترعاها في هذه المنطقة، السياسة العالمية، حيث لم تتمكن من إنتاج إنسانا له قلب، قادر على انتشال الإنسانية التي تعيش عليها، من وحل الإقصاء، وقتامة التسويفات الرمادية، وصلف الوجه الآخر الحقيقي للأنظمة العالمية، الشرهة بالأنا، والسلطة، التي تكبح أي جهد منقذ للإنسان، لا يخدم مصلحتها الاستغلالية.. ؟!

يقول محمد الصغير: ” خُضْنا حروباً عديدة ضد استبداد الإرادة واستبداد الدولة واستبداد النقد الأدبي واستبداد التأويل الديني، لم ننتصر بالكامل، ولم ننهزم بشكل حاسم، وها نحن الآن نخوض حرباً مع مرض أمّيٍّ، لا يحسن القراءة والكتابة، لا نُحمّل المسؤولية لأحد من هذه البلاد التي أحببناها صباحاً ومساءً ويوم الأحد. في انتظار أن تحبّنا هي بدورها. إذا وجدت يوماً شاغراً في أيام الأسبوع.”

قال ذلك، للذين يقولون بعدم جدوى الشعر والشعراء، كان لهم بالتحديد صوت ونظم أولاد أحمد، الشاعر المثقف العضوي حسب غرامشي، الملتزم، المنحاز إلى الشعب، إلى الإنسان، إلى المقهور، حيث التكرار والإعادة، كما يقول فرويد، هما أحد نظائر الموت. والواقع أمام الشاعر، حبلى بالتجاويف المرضية، بشباب تائه وشرائح غاضبة، وشعوب مظلومة، وبأشباه مثقّفين تائهين أيضًا. لأن التعصب لا يقتصر فقط على التعصب الديني، بل يتعداه أيضًا إلى التعصب الثقافي، والتعصب التحكمي، والتعصب السلطوي… ؟ !

عندما صرخ نيتشه الشاعر، بمقولته “اكتب بدمك..”، لم يصرخ بها عبثا، وهو الشخص الذي لم يكن إلا ليتأمل ويتفاعل مع معاناة الإنسان كإنسان، وحيث يقول هايدغر “إن الخاصية الجوهرية للفكر، باعتبارها عملا فنيا للشاعر، ما تزال محتجبة.”، إلا أن مع الشاعر محمد الصغير أولاد أحمد، لم يتركها محجبة حيث هو من صرح، تعقيبا على تكريمه من الدولة التونسية في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، اعترافا منها لما قدمه للشعر والثقافة التونسية، قال الشاعر آنذاك، “هذا التكريم يتجاوز شخصي إلى تكريم الشعر باعتباره نواة الحياة.”.

هذا النور الذي يمنحه الشعر للحياة، يقول عنه أولاد أحمد قبل التكريم وهو متألما أشد الألم بطول القلق الذي عاشه: “لقد خسرتُ كل شيء من أجل الشعر، الكتابة هي مهنة الخسارة. ضحّيتُ بابني ناظم، وعائلتي وأمي وقبيلتي، ومنحت نفسي للكتابة. في الشعر لا يمكن أن تكون محايداً: إما أن تختار الشعر، أو تبقى مواطناً صالحاً يعتني بالعائلة والأصهار، ويشاهد المسلسلات العربية، ويشرب الشاي بهدوء.”.. !!

إن كتابة الشعر وخطاب الشعر أساسا، وعند الشاعر محمد الصغير أولاد أحمد خصوصا، لا يكون مُحايثا لباقي أنواع الخطاب، إنه خطاب راء، و مشرح، و مفسر. إنه الباقي، أثر الوشم في اليد، ندبة القلق والصراخ على مآل الوجود في جبين اللغة. قصيدة صغيرة عن جناح فراشة، قد تقول العالم كله. يقول الشاعر: ” قلق الإنسانُ حتّى قلقاً // قطّر الكأس مراراً// واستباح العرقا // وهم في القصر، // … // يدخلن الكرم على عجلٍ // وعلى مهل.. // يقطفن عناقيد الشّعر // وينسين الشعراء!”.

وإذا كان “الشعر لا يتطابق إلا مع الأفكار اليقظة، الشغوفة بالمجهول، والمنفتحة أساسا على الصيرورة، فليس هناك من شعر إلا حيث يكون ثمة خلق وإبداع مطلق، حسب “بيير جون جوف Pierre Jean Jouve”، فمع الشاعر محمد الصغير، “تتعلم أن الشعر سلوك، وأن القصيدة في النهاية ليست سوى “شعر اللغة”.، معلقا الكاتب المغربي، لحسن العسبي، على أحد لقاءاته معه بداية تسعينيات القرن الماضي. هذا الشعر الذي ناضل به، طيلة الواحد والستين عاما من عمره، حيث يقول: ” وطني دقيقٌ مثل ساعةْ // الكلُّ فيهِ عقاربُ // والفردُ ينتخبُ الجماعةْ ” ويضيف، بمرارة شاعر صفي السريرة، نقي الرؤيا، تعرض لظن الأفاكين ” لستُ أول من تم الاعتداء عليه ولن أكون الأخير. منذ هذه اللحظة لم أعد اعترف بأية شرعية ولن ينجو أي مدني أو عسكري، صامت عن مثل هذه الممارسات، من قنابل الشعر وصواعق النثر.”.

أولاد أحمد، شاعر لم يكن يشبه الشعراء، هل يمكن أن نقول عليه، إنه من صعاليك العصر..؟؟ أو شاعر بوهيمي..؟ شاعر ينطلق من منطلق الفيلسوف الذي يؤمن بـ”البوليموس”، أي يؤمن بالسجال، شاعر بمزاج الشاعر الحطيئة العربي، وبوداعة نيتشه الإنسان الجرماني، وبقوة “السوبرمان النيتشي الآري”، وبـ “قلب عروة بن الورد وشجاعة دونكيشوت الأندلسي” على حد تعبير الشاعر جمال بدومة.

الشاعر أولاد أحمد. كان أشبه بالمشاغبين والعُصاة والخارجين على القانون. إنه رديف الشاعر بودلير صاحب “أزهار الشر”، أشبه بالمتمردين والثوار، في النظم والموضوع والحضور والأفكار، يقول الناقد المغربي عبد اللطيف الوراري ” إني اكتشفت قصيدته التفعيليّة المختلفة في بدايات التسعينات…؛ إذ وجدْتُها…، بسيطةً وساخرةً وغضبى ومُجدِّفةً بعالمٍ عربيٍّ ينحدر إلى الهاوية. كان يقتصد في لغة القصيدة، ويتقشّف من جهة بلاغيّتها، لكن كان ينحت لها عُمْقًا يتأتّى مما فيها من صدق وطراوة.”، يقول الشاعرعن كتاباته: ” إذا كان بعضُ الكُتّابِ يستطيعون الكتابةَ، فأنا أستطيعُ أن لا أكتُب”.

ويضيف الوراري: “ورُبّما زدنا على ذلك بالقول إن قصيدة أولاد أحمد كانت تودّع مرحلة ظافرة بمنجزها، وتستقبل أخرى تخلّلتْها الميتات المتقاربة لجيل الشعراء الرواد، وشهدت سجالًا من نوع آخر، شكليًّا وطوائفيًّا، على أرض ملغومة.”، يقول أولاد أحمد ” قد أموت شهيدا // وقد لا أموت شهيدَا…”

كان وكأنه يُبشر بموته قريبا جدا، إنها رؤية الشاعر وحذق بصيرته، التي لا يخلو منها عارف بماهية وإلهام الشاعر، إنه هو من كتب قصيدة الوداع عن هذا العالم الذي كان مُقلقا له، وكان يجابه فيه يوميا، بسخريته الشعرية المعهودة، وقبل الوداع الأخير، لأصدقائه في المستشفى ولمحبيه عبر العالم العربي، وبلا عودة، إلا بما تركه من عظيم القول وسجي النظم، قال في قصيدة الوداع: ” أودّعُ السابقَ واللاّحق // أودّع السافل والشاهق/ أودّع الأسباب والنتائج // أودّع الطرق والمناهج // أودّع الأيائل // واليرقات // أودّع الأجنّة والأفراد والجماعات // أودّع البلدان و الأوطان // أودّع الأديان // أودّع أقلامي و ساعاتي// أودّع كتبي و كراساتي// أودّع الصغائر و الكبائر// أودّع السجائر // أودّع الأغلال والقيود// أودّع الجنود و الحدود // أودّع المنديل الذي يودّع // المناديل التي تودّع // الدموع التي تودّعني // أودّع.. الوداع…”.. !!
ذالك الوداع الذي تأرخ في 5 أبريل /نيسان 2016، وقبله بيوم واحد، كان آخر ماكتبه، حسب عبد الوهاب السلامي، بعنوان “تونس”، و يقول:” سلّمتُ في الدُّنيا…// وقلتُ: أكونُها: شعرًا // ونثرًا // ناقدًا // ومُبشّرًا // طولَ الفصولِ الأربعهْ // أنْثَى // وأمّي // ليس لي …. قبْرٌ // في المــَا-بعْدُ // في الأُخْرى// سوى هذي الحُروفِ الأربعهْ”.. !!

ودعتنا أيها الشاعر الكبير، محمد الصغير أولا أحمد، الشاعر القلق والساخر والفاضح والفصيح… الذي ارتاح أخيرا، غادر عالمنا إلى أن نلتحق به، وتركنا فيه ونحن نكابد ونكامد، ونحن أكثر قلقا وأشد وجعا.. !!

شاهد أيضاً

ليست مرثيّة لإميل حبيبي

(ثقافات) ليست مرثيّة لإميل حبيبي: الإنسان في جوهره مرزوق الحلبي عندما اتخذ الحزب الشيوعي قرارًا …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *