القاهرة- نجيب محفوظ.. هل صار عبئاً على الناشرين؟، حكاية محفوظ مع النشر تحتاج إلى إفراد فصل خاص بها في سجل الكاتب الكبير، فما يجري الآن ليس إلا فصلاً عبثياً، سبق أن كتبه الروائي «إبراهيم فرغلي» في روايته «أبناء الجبلاوي»، حيث انطلق من حدث اختفاء أعمال محفوظ من المكتبات، حتى إن شخصيات روايات الكاتب الكبير، أخذت تبحث مع الراوي عن الروايات المختفية، الآن يتجدد الحديث عن رواية فرغلي، بعد امتناع «ناشر محفوظ» عن إعادة طبع ما نفد من أعماله.
في هذا الإطار يمكن اعتبار أن علاقة محفوظ بناشره التاريخي الأول «مكتبة مصر» ثنائية من ثنائيات الواقع الأدبي، فقد ظلت المكتبة هي الناشر الوحيد لأعماله، على مدى ما يزيد على 60 عاماً، قبل أن ينهي الكاتب الكبير هذه العلاقة، بالتعاقد مع دار نشر أخرى، وذلك قبيل رحيله بعام واحد.
بدأت علاقة محفوظ ب «مكتبة مصر» سنة 1943 عن طريق عبدالحميد جودة السحار وبعض الأصدقاء الشباب، الذين كانوا يحاولون تلمس خطواتهم الأولى في طريق النشر، فاتفقوا على تأسيس ما أسموه «لجنة النشر للجامعيين» على أن تصدر كتاباً كل شهر لواحد منهم، وكان سعيد جودة السحار، قد تخرج في كلية الآداب قسم اللغة الإنجليزية سنة 1931، وأخذ يبحث وقتها عن مكان، حتى وجد مكتبة تبيع الأحبار والطباشير، اسمها «مكتبة مصر» فاشتراها.
في شهادة خاصة عن بداية تعرف نجيب محفوظ إلى سعيد السحار، نقرأ ما كتبه السحار: «تعرفت بالأستاذ نجيب محفوظ – أول معرفتي به – سنة 1943 ذلك أن شقيقي الأديب الراحل عبد الحميد جودة السحار، حضر إليّ في المكتبة التي أملكها – مكتبة مصر بالفجالة – وقدمه إليّ باسم نجيب محفوظ، وقال لي إنه يحمل معه رواية من تأليفه، يرجو أن أقوم بطبعها ونشرها له، وقدم إليّ نجيب محفوظ روايته «رادوبيس»، وهي ليست أول رواية يكتبها، فقد كتب قبلها رواية«عبث الأقدار»، وكان قد طبعها ونشرها له الأستاذ سلامة موسى».
لم تكن علاقة محفوظ بالناشرين تتضمن أسبابا مادية، منذ أن نشر كتابه الأول، حتى إنه عقب فوزه بجائزة «نوبل» لم يفكر في تغيير ناشره «مكتبة مصر»، ولم تفلح إغراءات كبرى دور النشر معه، فهو لم يسع لحظة لجمع المال، ولم يناقش هذه الأمور مع ناشره، ولم يضع شروطًا لنشر كتبه، كما يفعل آخرون، فعندما نشر له «سلامة موسى» أول كتاب ترجمه عن مصر القديمة، وبعدها رواية «عبث الأقدار» لم يحصل منه على مقابل مادي.
أبدى السحار استعداده وترحيبه لطبع الرواية ونشرها، يقول: «اعترضتني عندئذ مشكلة الحصول على الورق، الذي تطبع عليه الرواية، فقد كانت الحرب العالمية الثانية في عنفوانها، والورق معدوم تماماً من السوق، ومهما يكن من أمر فقد حصلت على كمية من الورق من الجيش البريطاني، وطبعت عليه الرواية – 500 نسخة فقط – بناء على نصيحة نجيب محفوظ، الذي كان يخشى أن يعرضني للخسارة، بألا تستوعب السوق عدداً أكبر».
بعد انتهاء الحرب، نشرت مكتبة مصر لمحفوظ «همس الجنون – كفاح طيبة – خان الخليلي – القاهرة الجديدة – زقاق المدق – السراب – بداية ونهاية» في طبعات تتراوح بين خمسة آلاف وعشرة آلاف نسخة، ولم يكن العقد المبرم بين نجيب محفوظ والسحار ينص على احتكار أعمال الأول، ولذا أصدر في سلسلة «الكتاب الذهبي» في مؤسسة «روز اليوسف» طبعة من إحدى رواياته في 15 ألف نسخة.
يحكي السحار أنه في يوم من سنة 1956 فوجئ بمحفوظ يدخل عليه المكتبة، حاملاً على ذراعيه كمية ضخمة من الأوراق، وطلب إليه أن يطبعها وينشرها له في كتاب واحد، وكانت هذه الأوراق تحتوي على الثلاثية، وكان محفوظ قد عرضها على طه حسين ليقرأها ويبدي رأيه فيها، فكتب عنها مقالاً مطولاً في «الأهرام».
كان رأي السحار أن طباعة الرواية في كتاب واحد، يحد من بيعها على نطاق واسع، واقترح أن تطبع في ثلاثة أجزاء، فوافق محفوظ، وظهرت الثلاثية في ثلاثة أجزاء: «بين القصرين – قصر الشوق – السكرية»، ثم تلا ذلك العديد من الروايات، التي أسس من خلالها محفوظ لفن الرواية العربية، وكانت الرواية تنشر مسلسلة في «الأهرام» ثم يتلقفها السحار لطباعتها، حدث هذا مع كل ما كتبه محفوظ، باستثناء «أولاد حارتنا» لأسباب يعرفها الكثيرون، و«أحلام فترة النقاهة»، التي كتبت بعد أن فض محفوظ عقده مع ناشره التاريخي.
كان ذلك فصلاً جديداً من فصول محفوظ مع الناشرين، فقد أجرت إحدى الصحف حواراً مع «أمير السحار» وارث مكتبة مصر، قال فيه: «إن الكتب والإبداعات الروائية في مصر لا تلقى رواجاً، وإن كتب نجيب محفوظ نفسه لا تباع إلا بأعداد قليلة»، وهنا بدأت الأزمة الأولى والأخيرة بين محفوظ وناشره التاريخي، فعندما قرأ الكاتب الكبير الحوار، غضب من تصريحات «السحار الصغير» فأرسل إليه خطابا يقول فيه إنه يشعر بأنه صار عبئاً على مكتبة مصر، وأنه يريد أن يخفف عنهم هذا العبء، وطالبهم بأن تتوقف المكتبة عن طبع أعماله، وأن تتخلص مما لديها في مدى ستة أشهر من تاريخ إرسال الخطاب.
كانت المفارقة أن مكتبة مصر طبعت روايات محفوظ التي لا توزع في «كتاب الجيب» بسعر شعبي، في الوقت الذي تعاقد فيه محفوظ مع ناشر جديد، وكانت المفارقة الثانية أن محفوظ وجد نفسه مطلوباً أمام المحاكم لإخلاله بشروط التعاقد مع المكتبة، كانت الدعوى القضائية تطالبه بتعويض قدره 5 ملايين جنيه، وانتهى الأمر بالصورة الهزلية التي يتلقاها محفوظ حالياً بعد رحيله، حين يدخل قارئ إلى ناشره الجديد، فلا يجد من أعماله إلا القليل، بعد أن توقف الناشر عن طباعة الأعمال التي نفدت.
__________
*الخليج الثقافي