*أمير تاج السر
إذن البوكر ليست جائزة شخصية بقدر ما هي جائزة عامة، وعلامة جذب كبيرة تشد القريب والبعيد، ذلك الشد الذي نتمناه دائما ونتمنى أن يثمر في إيجاد حلول ذات يوم في ما يختص بإدراك المعرفة، فالقراءة واكتساب المعرفة في رأيي، ليست قراءة روايات ترد في قائمة لجائزة، ولكنها أكبر من ذلك.
هناك معرفة في قراءة كل شيء، حتى قراءة الوجوه والشوارع، وخفايا النفوس، وهذا بالضبط ما يفعله الروائيون العظام، حتى ينتجوا أدبا رفيعا جديرا بالاحتفاء به. والقارئ الذي لا تعجبه رواية عظيمة مليئة بالمعرفة، ويقوم بازدرائها، لمجرد أنه لم يتذوقها أو لم يسع لتذوقها، لا يدرك كم أنفق كاتبها من جهد جبار ليلمّ المعرفة ويهضمها، ويلخصها له في عمل أدبي كبير أو صغير.
والقارئ لروايات صغيرة الحجم مثل: راوية “الأفلام” لإيرنان ريبيرا، أو “حجر الصبر” للأفغاني عتيق رحيمي، يدرك بسهولة ذلك الكم الهائل من الثقافة والمعرفة بأشياء كثيرة، قدم له في روايتين صغيرتين جدا.
أعود إلى جائزة البوكر، وأعود إلى الضجة الكبرى التي تصاحب ظهور قوائمها في كل عام. فمن المعروف أن الكاتب لا يقدم نصه، ولكن يتم ترشيحه من قبل الناشر ويعلم الكاتب بذلك ليوقع على استمارة الترشيح، وفي هذا الإطار يمنح جميع الناشرين فرصة أن يرشحوا ثلاثة أعمال بغض النظر إن كان الناشر كبيرا وراسخا في سكة النشر أو حديث عهد بها.
وبالتالي نجد التنافس كبيرا جدا، ويزداد عدد الأعمال المرشحة في كل عام، وبوجود باب واسع كهذا ومفتوح للجميع، لا بد أن تحدث فوضى ما، وأن يتم ترشيح أعمال لا ترقى لأي مستوى، وما تفعله هو زيادة العبء والإرهاق للجان التحكيم التي تضطلع بهذه المهمة الشاقة.
ولأن نافذة البوكر هي النافذة الوحيدة المفتوحة للأدب العربي تقريبا ليطل برأسه على العالم عبر الترجمات، فمن المتوقع أو من المأمول دائما أن يتم اختيار الأعمال بنزاهة وحكمة، لأننا حين نطل على الغريب ينبغي أن نطل متأنقين ومتزينين وليس بغبارنا أو كآبتنا.
وهنا تبرز المشكلة، فما أراه أنا مثلا عملا عظيما، يراه غيري بلا أي قيمة، والعكس صحيح. والمحكم بالضرورة قارئ، ويملك تذوقه الخاص للأدب، هو يضع معيارا للجودة والكفاءة أولا، ولكن لا بد من التذوق.
وفي قراءة سريعة لسباق سبع سنوات من ميلاد البوكر العربية في عالمنا، نجد نجاحات كبيرة، وأيضا ثمة إخفاقات. لقد حصلنا بالفعل على مواسم قراءة ممتازة مع أغلب الدورات، ومواسم قراءة ليست جيدة تماما مع دورات أخرى، حصلنا على كم هائل من الروايات التي أنتج بعضها بتعجل للحاق بموعد الجائزة، وروايات كتبت بتأن، وعيون أصحابها بعيدة عن الجائزة، لتدركها الجائزة، وتتوجها.
وقد ساهم ذلك في ظهور أسماء لم تكن معروفة بشكل كبير في الماضي، لتترسخ بعد ذلك في عالم الكتابة، وتنتج بمعنويات عالية. وكذا الحال في كل عام، فقوائم البوكر كما يبدو تعمل نيابة عنا في اختيار العناوين المرشحة للقراءة، وسط آلاف العناوين التي باتت تنتج سنويا ولا يستطيع أحد أن يلاحقها.
وقد أشرت كثيرا إلى موضوع تراكم الروايات، وكيف أن كتابتها أصبحت سهلة جدا، حين لم يعد الناس يبدؤون طريقهم في الكتابة بالقصيدة أو القصة القصيرة كما كان سائدا في الماضي، بل يبدؤون بالرواية مباشرة، وحتى الشعراء أنفسهم -ومنهم من يحمل تاريخا طويلا من الشعر- داخل وجدانهم
الآن توجهوا لكتابة الرواية، وكأن الرواية أصبحت فرضا من الفروض، يجب على الجميع اتباعه.
أيضا من إيجابيات بوكر العربية أنها أوجدت لنا ما تسمى بالندوة، وهي ورشة عمل سنوية تهيأ لها الأجواء في منتجع راق في الإمارات، ويحضرها شباب الكتاب، تحت إشراف مباشر من كتاب مخضرمين كانوا مرشحين للجائزة أو حصلوا عليها بالفعل.
تلك الندوة ذات قيمة كبيرة. إنها تتيح الاحتكاك المباشر بين جيل قدم تجربته وجيل يستعد لخوض تجربته الخاصة، هذا ما نفتقده حقيقة، وقد كان الاحتكاك قديما عشوائيا ويأتي دائما بالمصادفة في المقاهي مثلا، ولكن بهذه الطريقة الراقية المنظمة، وجو التفرغ المتاح، نستطيع أن نحصل على نتاج ممتاز، نسعد به ويسعد القارئ معنا.
منذ أيام عدة أعلنت القائمة الطويلة لجائزة هذا العام، وكالعادة صاحبتها الضجة المعتادة، هي قائمة تضم كتابا مخضرمين، بتجارب كبرى، وكتابا جددا من الشباب، وأرى أن التنافس فيها جيد، فقط لننتظر ونرى.
_______________
*الجزيرة.نت