الانغلاق الهوياتي والعنف



سعيد السلماني*


خاص ( ثقافات )
نقصد بالانغلاق الهوياتي ذلك الثبات والانغلاق الذي يكون سببه الهوية، أي تلك الهوية الأحادية المتفردة والصافية التي لا تقبل الانفتاح.
وفي هذا الصدد قد يقول قائل بأن الهوية ينبغي أن تكون كذلك، لأنها تحمل في طياتها خصوصية كل فرد وكل مجتمع. هذا قول صحيح، غير أن الحديث في هذا الصدد ليس عن جوانب الخصوصية التي يمتلكها كل فرد وكل مجتمع، هذا أمر مسلم ومطلوب. إن القصد تلك الهوية التي تنبت ضمن مصادر معرفية جاهزة لا تقبل النقد أو الشك. إنها هوية طاردة لكل جديد أو مختلف، تحمل الطابع الإطلاقي.
مصادر الانغلاق الهوياتي:
إن للانغلاق مصادر متعددة ولا يشتغل في فراغ أو خارج عوامل تحركه، منها ما هو سياسي او ثقافي أو اجتماعي أو ديني…وكل الذين يملكون سلطة التأثير في الثبات والانغلاق. ففي عالم أصبح من السهل أن ترى العنف في كل مكان منه، نظراً لتنامي أسباب واستشراء اللجوء إلى الهوية الدينية أو المذهبية أو العرقية، وضيق الأفق الهوياتي واتخاذ هذا المنحى وسيلة للانعزال عن الآخرين واستخدامه سلاحاً في حروب يشعلها الطامعون في الزعامة والنفوذ.
وعليه، فإن الآثار المترتبة عن هذا الانغلاق متعددة كلها تصب في خانة التعصب الذي ينتج عنه العنف، ومن ثم يمكن القول: إن شعار الانغلاق الهوياتي “معي أو ضدي” الذي مارسه السياسي المحافظ “جورج بوش” إبان الحملة التعصبية الشهيرة على العراق، مبرراً ذلك بالدفاع عن الأمن القومي والهوية الأمريكية المهددة. مما يعني أن مفهوم “الهوية” حمّال أوجه، ومن ثم يمكن توظيفه سياسياً، أو بتعبير آخر؛ إنه قنبلة موقوتة موجودة في قلب كل المجتمعات البشرية ويكون وقودها السياسي أساساً. فهذا الأخير من له الصلاحية في تحوير المعرفة وتحويلها إلى تقنيات ثابتة، وله من الإمكانات ما يكفي لتسخير جميع القنوات الممكنة، كربط تحالفات وإصدار قوانين مشرعة… وأبرزها المؤسسة الإعلامية التي تجعل من المستحيل ممكناً.
ومما يزيد من تفاقم عنف الهوية تلك التوصيفات الفجة التي تصنف الناس تصنيفاً “يذهب في كثير من الأحيان وراء حدود الاحتقار” من أجل الوصول إلى أهداف غير إنسانية. ومن ثم الزج بالإنسان في احتقار الهويات الأخرى والدفع به نحو اكتشاف هوياته القتالية. ويمكن أن نعثر على استخدام لافت للفرادة المتخيلة في الفكرة الأساسية للتصنيف التي تعمل بوصفها الخلفية الفكرية للفرضية التي نوقشت كثيراً تحت عنوان “صراع الحضارات”. ولعلها هي الأطروحة السائدة اليوم والتي ترسم وتوجه الكثير من الأفعال السلوكية السياسية والاجتماعية والاقتصادية.
ويريد صاحب هذه الأطروحة عموما أن يجعل الابداعات الحضارية الإنسانية مختزلة في حضارة واحدة وهي الحضارة الغربية (المركز) والعمل بالتالي على نفي وإلغاء الحضارات الأخرى، أو في أحسن الأحوال جعلها تدور على الهامش. وهكذا تصبح هي الحضارة الفريدة والهوية الصافية ليعلن بذلك عن القضاء على أصل من أصول الإنسانية وهو “الاختلاف”، الذي هو الأصل والمبتغى كما يقول الدكتور علي حرب في كتابه “نقد الحقيقة”. إن الهوية الصافية والمنغلقة عمياء، وهي الوجه الآخر للاختلاف الوحشي كما يقول الباحث المغربي الراحل عبد الكبير الخطيبي. كما أن مثل هذا الطرح يتجاهل التاريخ المشترك والانتماءات المتعددة التي يتمتع بها الناس من داخل نفس جماعة الانتماء فما بالك بالحضارات.
نخلص إلى القول: إنّ اختزال الشعوب والأفراد في هويّة واحدة قد أدّى إلى الكثير من المجازر الدموية من قبيل تلك التي حدثت في الهند وفي صربيا وفي فلسطين وفي أفغانستان وفي السودان… وما حدث في بورما وفي الشيشان وما يحدث اليوم في سوريا وليبيا وفي الكثير من ديار الإسلام. كلّ هذه الجرائم الفظيعة وقعت تحت راية التماهي الطائفي وفي ظل الهويّة الواحدة المتفردة: الهويّة المسلمة أو اليهودية أو الشيعية أو الكردية… جرائم فظيعة وصدامات دموية ارتدّت بالإنسانية إلى “أكلة لحوم البشر” أو إلى مجتمع الذئاب.
إن كره الناس ليس أمراً سهلا. فالكراهية فن وحرفة، تحتاج إلى مزيد من الخدمة والرعاية على يد أناس مختصون في بناء بروج مشيدة من الكره على يد قادة الاضطهاد والمذابح. 
كيف يعمل هذا الفن؟ إنه سؤال وجيه وعميق يجيب أحد المفكرين عليه بالقول: “يعمل قادة التعذيب والمذابح بمهارة في نشر الوهم بوجود هويّة واحدة ثمّ يسمحون لهذا الوهم بالتجذّر والنموّ. وليس أمراً لافتا أن يبدو توليد وهم الهويّة المفردة هذا، القابل للاستغلال من أجل الصراع، مغرياً للذين يشتغلون بمهنة غرس العنف ورعايته” . إن الفن القتالي لتعزيز العنف يعتمد على بعض الغرائز الأساسية ويستخدمها للضغط على حرية التفكير وإمكان التأمل الهادئ. لكن ينبغي أن نعترف بأنها تعتمد أيضاً على نوع من المنطق، لكنه منطق هش. إن الهوية التي تفصل من أجل نشاط معين، في معظم الحالات، هي هوية أصيلة للشخص الذي يراد تجنيده: فالهوتو هو فعلا ينتمي إلى الهوتو، والصربي ليس ألبانياً، والألماني المسيحي، الذي سمّمت عقله فلسفة النازي، هو بكل تأكيد ألماني مسيحي. إن ما حدث لتحويل هذا الحس بفهم الذات إلى أداة قتل هو؛ أولا، تجاهل أهمية الانتماءات والارتباطات الأخرى، وثانيا، إعادة تحديد مطالب الهوية “الوحيدة” في قالب قتالي بشكل خاص .
لقد تبين لنا مما سبق أن هناك ترابط وثيق بين الهوية والعنف، فالكثير من أعمال العنف التي تحدث في العالم تغذيها هويات متفردة مدعومة بتنظيرات علمية وبسند سياسي. ويحدث ذلك عن طريق إغفال أهمية الانتماءات والارتباطات الأخرى للناس، وكذلك عند إعادة تحديد مطلب الهوية “الوحيدة” في قالب قتالي مزعوم.
____________
صامويل هنتنغتون يعد واحداً من أشهر علماء السياسة الأمريكيين، فقد أستطاع هنتنغتون منذ بداية الحرب الباردة وبداية العهد الجديد أن يلفت إليه الأنظار ويثير حوله نقاشات وحوارات حامية في كل أنحاء العالم. وهوالأستاذ في جامعة هارفارد كان كتابه “صراع الحضارات” يعد من المصادر الاربع في الاستراتيجية الامريكية، وهذه الكتب الأربع هي كتاب فوكوياما “نهاية التاريخ”، وكتاب بريجنسكي “أحجار على رقعة الشطرنج الكبرى”، و كتاب هنري كيسنجر “هل الولايات المتحدة بحاجة إلى سياسة خارجية”، ثم كتاب صامويل هنتنغتون عن صدام الحضارات، ثم أخيراً ظهر كتاب ريتشارد بيرل عن ما يسمى “نهاية الشر”. هذه الكتب محورها الرئيسي أن الولايات المتحدة تمر في فرصة ذهبية لترسيخ هذا الموقع المسيطر على مجريات الكون وعلى مجريات العلاقات الدولية تعظيماً لمصالحها في شتى أنحاء المعمورة. إن الطرح الرئيسي لكتاب صراع الحضارات هو أن الثقافة او الهوية الثقافية والتي هي في أوسع معانيها الهوية الحضارية، هي التي تشكل نماذج التماسك والتفكك والصراع في عالم ما بعد الحرب الباردة. إن الأجزاء الخمسة لهذا الكتاب هي عبارة عن توسيع وتطوير لنتائج ذلك الافتراض الرئيسي. (من مقدمة كتاب “صراع الحضارات وإعادة بناء النظام العالمي” . ترجمة، محمود خلف ومالك أبو شهيوة، ط1، سنة 1999. دار الجماهيرية-طرابلس ليبيا).
أمارتيا صن، الهوية والعنف وهم القدر، ترجمة حمزة بن قبلان المزيني، دار جداويل للنشر والتوزيع-بيروت، ط1، 2012، ص، 265.
أمارتيا صن، الهوية والعنف، وهم المصير الحتمي، ترجمة، سحر توفيق، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، عدد،352 ، 2008. ص؛ 276. 
__________
* أستاذ الفلسفة/ المغرب.

شاهد أيضاً

الفيلسوف “ابن رشد”: منهجه العقلاني وعلاقته بعلم الاجتماع وحقوق المرأة

(ثقافات) الفيلسوف “ابن رشد”: منهجه العقلاني وعلاقته بعلم الاجتماع وحقوق المرأة حاتم السروي لا نبعد كثيرًا …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *