*فاضل السلطاني
لا تتوقف قوافل الكتاب والفنانين البريطانيين عن السفر إلى كاليه الفرنسية، حيث يعلق ستة آلاف بائس رجالا ونساء، بينهم 315 طفلا وحيدا، بانتظار العبور إلى الجنة الموعودة: بريطانيا، التي يحرس أبوابها رجال يزنون كل شيء بمقياس الربح والخسارة، ويقيسون البشر حسب مسطرة وزير الخزانة البريطانية في هذا البلد، الذي لجأ إليه الفرنسي فولتير في القرن الثامن عشر هربا من اضطهاد السلطات الدينية في بلده، فرنسا، وآوى إليه الألماني ماركس في القرن التاسع هاربا من بلاده، وقضى في لندن سنوات طويلة من حياته، صرفها قارئا ليل نهار في المكتبة البريطانية، التي لا تزال محافظة على «حرمة» غرفته، والتي سمتها «غرفة ماركس».
وأثناء الحرب الكونية الثانية، فر إلى بريطانيا، مفكرون وكتاب وسياسيون كثيرون بالإضافة إلى «عامة الناس». وقسم من هؤلاء أصبح مسؤولا كبيرا داخل حزب المحافظين نفسه، مثل وزير الدفاع السابق مايكل بورتللو، ووزير الداخلية السابق مايكل هاورد. وأصبح تيد ميليباند وزيرا للخارجية، وانتخب أخوه أيد ميليباند، ابنا المنظر الماركسي المعروف الذي هرب من بلجيكا، زعيما لحزب العمال، وكان يمكن أن يكون رئيسا للوزراء. هل تغيرت بريطانيا؟ هل يريد المحافظون أن يعيدوها إلى جزيرة معزولة، كما كانت، قبل أن تصبح الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس؟ يبدو أن الأمر كذلك على الأقل في الفترة الحالية، حيث ترتفع الأصوات للخروج من الاتحاد الأوروبي، وتغلق الحدود أمام اللاجئين. وإذا كان الأمر الأول مطروحا للاستفتاء، فإن الأمر الثاني متعلق بالضمير الإنساني والأخلاقي، اللذين طالما أعلنت أوروبا الغربية، متمثلة بسلطاتهما الرسمية، التزامهما بذلك. الموقف البريطاني الرسمي مخجل جدا بالمقاييس البريطانية نفسها، التي على أساسها كانت بريطانيا ملاذا لكل المضطهدين من جيرانها، وبالذات ألمانيا وفرنسا. انعكست الآية الآن.. رسميا في الأقل. هذا ما يريده اليمينيون دائما. أن تتحول البشرية إلى جزر منعزلة، «لأن التآخي الإنساني أكذوبة كبيرة». أليس هذا هو جوهر خطاب ترامب، الذي يمكن أن يصبح الرئيس الأقوى في الكون لسنوات كالحة قادمة؟
لكن هناك صورة أخرى، لا تزال غير ساطعة، لكنها موجودة. إنها حرب المثقفين – هل نحتاج أن نقول «المثقفين الحقيقيين» – ضد انغلاق بلادهم، وخصوصا موقفها من اللاجئين.
المثقفون البريطانيون، يساريون وليبراليون، يخوضون حربهم هذه عبر الوسيلة الوحيدة التي يملكونها، ولا يجيدون غيرها: الفن. إنها ليست حربا طبقية، كما في السابق. تبدلت الأمور الآن. إنها حرب إنسانية ضد هذا الاقتلاع الإنساني المرعب من الأرض.. السماء الأولى، الوطن، والأهل، والتراب. ماذا يمكن أن يقدمه الفن لهؤلاء البائسين، الضائعين في تلك البقعة التي سموها «الغابة»، القابعة على الحدود البريطانية – الفرنسية. مثل هؤلاء المثقفين، يجسدون في عصرنا الحالي المعنى الحقيقي للمثقف.. المثقف العضوي الذي لاكه قسم كبير من المثقفين العرب طويلا من دون أن يطبقوه أو حتى يفهمونه.
هناك، «بنوا» مسرحا سموه «مسرح الحظ الطيب»، وسط خيمة أرادوها أن تكون في دلالتها حتى أكبر من المسرح الوطني في قلب لندن. فنانون وكتاب من الطراز الثقيل: الممثل جود لو، والكاتب المسرحي الحائز على الأوسكار توم ستوبارد، وهو في نهاية عقده الثامن الذي قد اكتوى، منذ طفولته، بمحنة اللجوء، حين هربت عائلته بعد غزو النازيين لتشيكوسلوفاكيا إلى سنغافورة، وقتل أبوه اللاجئ، والممثل توبي جونز، بطل المسلسل الشهير «جيش أبي»، الذي تحول 1971 إلى فيلم، يتناول الأيام الأولى من الحرب العالمية الثانية، حين حاول الألمان الزحف إلى بريطانيا، انطلاقا من الساحل الفرنسي. ولا شك أن جونز تذكر تلك الأيام على الحدود البريطانية – الفرنسية، حيث يخيم اللاجئون الآن. وكانت هناك أيضًا الممثلة البريطانية جولييت ستيفنسون، المعروفة بالتزامها، ودفاعها عن القضية الفلسطينية، والمخرجة المسرحية ناتاليا كاليادا، والممثلة ماريا فريدمان.. أما ستوبارد، فهو يعرف محنة اللجوء تماما، حين هربت عائلته بعد غزو النازيين لتشيكوسلوفاكيا إلى سنغافورة، وقتل أبوه اللاجئ.
وقبل ذلك، في بداية هذا الشهر، قدم ممثلون من مسرح غلوب الشكسبيري، مسرحية «هاملت» الأمير الدنماركي، المتأمل في المحنة البشرية، والبؤس الإنساني، الذي يحاور الأشباح، التي لا تكذب أكثر من الكائنات الحية الكذوب، المخاتلة، التي تقتل بعضها بعضا، وتمارس الخيانة في ضوء الشمس، في مخيم اكتظ بكل أنواع البشر الذين طردتهم أوطانهم، وتواطأ الأخوة الأعداء على خيانتهم، وضاقت الأرض الواسعة بهم، بينما كانت السماء ترميهم بحجار من سجيل.
قصة «هاملت» كما قال الكاتب المسرحي جو مرفي: «تخاطب آلافًا هنا في وضع مماثل تمامًا لوضع هاملت. هناك كثير من الشباب واليافعين، الذين لا يرافقهم أحد، ونرى فتيانًا يخوضون أكبر صراع في حياتهم، فينهارون نفسيًا وجسديًا، ويفقدون عقولهم.. إنها لمأساة بحد ذاتها أن نتفرج على ذلك».
أما الممثل جود، فكتب من الغابة رسالة مباشرة إلى رئيس الوزراء ديفيد كاميرون قال فيها: «الناس هنا يخيمون وركبهم تغوص في المجاري والوحل.. لقد جلبت معي بطانيات وأحذية، ولكني أريد أن أعمل أكثر.. هؤلاء الأطفال بحاجة إلى مساعدة.. إنها قضية قابلة للحل، وعلينا أن نبدأ من هنا». وقد بدأ العمل بتجميع قصص هؤلاء اللاجئين المهولة لتحويلها لأعمال درامية، يبرز فيها، كما قال في رسالته إلى كاميرون، التناقض الغريب بين الظروف المرعبة والكبرياء الذي يتصف بها هؤلاء اللاجئون».
_______
*الشرق الأوسط