صمت المذنبين


باولو كويلو
 
«بالإضافة إلى هؤلاء الأشخاص التسعة ملايين الذين تأثروا بالإشعاع الناتج عن
كارثة (تشرنوبل) بشكل مباشر.. تأثر بوضوح 65 مليون شخص في مختلف دول العالم عن طريق
تناول الطعام الملوث.. وسواء كان ذلك في أوكرانيا أو روسيا أو الولايات المتحدة أو
ألمانيا.. تستحيل السيطرة الكاملة على المفاعلات النووية»


صوّر شريط الفيديو، الذي شاهدناه، في صبيحة الـ26 من شهر إبريل عام 1986، بينما
يرصد سيرورة الحياة اليومية في مدينة عادية، رجلا يشرب قهوته وهو جالس. وإحدى
الأمهات وهي تسير في الطريق، متمهلة، برفقة طفلها. وكذا يبدو فيه الناس، مشغولين
بالذهاب إلى العمل. ونرى شخصا او اثنين في موقف الحافلات. ويظهر رجل عجوز عاكفا على
قراءة صحيفة، خلال جلوسه في أحد الميادين.


ولكن شريط الفيديو توجد فيه مشكلة، فهناك خطوط أفقية عديدة في الصورة، وكأن زر
التتبع يحتاج إلى الضبط، ليتاح لي وللآخرين معي، إمكانية رؤية أفضل للصورة. وأفكر
في جعل أحدهم يقوم بضبطه. ولكنني أظن أيضاً، أن احدهم لا بد أن يكون لاحظ هذا.
وسرعان ما سيعالجون المسألة.


يواصل شريط الفيديو، الذي يدور حول مدينة داخلية صغيرة، انطلاقه، دون وجود أي
شيء مثير للاهتمام، على الإطلاق، إلى جوار مشاهد الحياة العادية. ومن المحتمل أن
البعض من هؤلاء الناس، يعرف أن حادثة وقعت على بعد كيلومترين اثنين من هناك. ويحتمل
أنهم يعرفون بسقوط ثلاثين ضحية، وهو رقم مرتفع، ولكنه ليس من الارتفاع بحيث يكفي
لتغيير الروتين الذي درج عليه سكان المدينة.


تظهر مشاهد شريط الفيديو الآن، حافلات مدرسية متوقفة، وستظل متوقفة هناك، على
امتداد أيام عديدة، بينما لا شيء يحدث. الصور بالغة السوء.. التفت إلى كاتيا وشرعت
أطلب منها تفقد ما يجري، لكنها لم تجبني، وكـأنما فقدت صوتها، فألتفت إلى اوليه
الذي يقول عبارة واحدة لا غير: “ليس الأمر راجعا إلى نظام التتبع، وإنما إلى
الإشعاع”.


وفي الساعة الواحدة والدقيقة الـ23، من بعد انتصاف ليل السادس والعشرين من
إبريل، حدثت أسوأ كارثة تسبب فيها الإنسان في تشيرنوبيل في أوكرانيا، حيث نشاهد
الآن شريط الفيديو هذا. ومع انفجار المفاعل النووي، تعرض السكان المحليون لإشعاع
أعلى بمعدل 90 مرة، من الإشعاع الذي تسببت به قنبلة هيروشيما.


كان من الضروري إخلاء المنطقة بأسرها فورا، ولكن ما من أحد، ما من أحد على
الإطلاق، قال أي شيء في نهاية المطاف، هكذا؛ فلا ترتكب الحكومة أخطاء.


بعد أسبوع كامل، وردت إشارة صغيرة مؤلفة من خمسة سطور في الصفحة الثانية
والثلاثين من الصحيفة المحلية، متضمنة خبر مصرع العمال، دون أي شيء آخر. وفي الوقت
نفسه، كان يجري الاحتفال بعيد العمال في جميع أرجاء الاتحاد السوفييتي السابق، وفي
كييف عاصمة أوكرانيا. مضى الناس منخرطين في الاستعراضات المخصصة للاحتفال بهذا
اليوم، بلا إدراك لحقيقة أن موتا خفيا يملأ الأفق.


ارتدت ذاكرتي بقوة إلى رحاب الماضي، ها أنذا أجلس في حديقة النباتات المعروفة،
باسم “جاردام بوتانيكو” في ريودوجانيرو، عندما بث التلفزيون الخبر. وفي ذلك الوقت
كانت الأجهزة في السويد، على بعد آلاف الكيلومترات من هناك، ترصد الغبار الإشعاعي
الذي ينطلق في اتجاهها.


ثلاثون حالة وفاة فقط، في ذلك اليوم. ومع ذلك، فإنه وفقا لتقرير صادر عن الأمم
المتحدة في عام 1995، تأثر تسعة ملايين شخص في العالم بأسره، بهذه الكارثة على نحو
مباشر، وبينهم ثلاثة إلى أربعة ملايين طفل، وتحولت حالات الوفاة الـ 30، بحسب ما
يقوله الخبير جون غوفمان، إلى 475 ألف إصابة قاتلة، بالسرطان، والعدد نفسه من
الإصابات غير القاتلة، بالسرطان.


غير أن صمت المذنبين امتد وقتا أطول بكثير من المتوقع، ففي نهاية المطاف ما من
أحد يشاهد الغبار الإشعاعي. ولكن عندما اطلع العالم بأسره، أخيرا، على جلية الأمر،
وعندما كان الغبار الإشعاعي قد انتشر بالفعل في جميع أرجاء أوروبا، تم إجلاء 400
ألف شخص، ومحي من الخريطة، ببساطة، ما إجماله 2000 مدينة.


يقول البروفسور فلاديمير تشيرنوسينكو: “بالإضافة إلى هؤلاء الأشخاص التسعة
ملايين الذين تأثروا بالإشعاع بشكل مباشر، فقد تأثر 65 مليون شخص غيرهم بشكل غير
مباشر، عن طريق تناول الطعام الملوث في العديد من بلدان العالم. وسواء كان ذلك في
أوكرانيا أو روسيا أو الولايات المتحدة أو ألمانيا، فإنه من المستحيل على الإطلاق
السيطرة بصورة كاملة على المفاعلات النووية، وقد أوشك ذلك على الحدوث في أميركا
(وهو يشير هنا إلى مفاعل ثري مايل آيلند، الذي انفجر فيه مفاعل آخر بصورة جزئية)
ومن لحظة إلى أخرى، فإن ذلك يمكن أن يحدث مجددا في الوقت الذي لا يتوقعه أحد”.


وينتهي شريط الفيديو الذي صوره جهاز الـ”كي جي بي”، وهو جهاز المخابرات في
الاتحاد السوفييتي السابق ـ ينتهي بقيام بعض العملاء، بارتداء ملابس خاصة، وتنخرط
كاتيا وأوليك ويوري ولينا في البكاء. ننهض واقفين، وبسبب صمت المذنبين يبقى
الأبرياء صامتين كذلك، لأنه ليس هناك شيء، لا شيء، على الإطلاق، يقال.

 

– عن البيان

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *