الرقة عاصمة القصة القصيرة لا عاصمة “داعش”


*فراس الهكار


خاص ( ثقافات )
إن يوم الرابع عشر من شباط ليس عيداً للحب والمشاعر وتبادل الدببة الحمراء فقط، إنما هو يوم القصة القصيرة العالمي أيضاً، ولو أن الأخير يعتبر مجهولاً لدى العوام، ويخص النخبة الثقافية دون غيرها، لكني لا يمكن أن أنسى أن مدينة الرقة كانت تمضي بثبات لنيل لقب (عاصمة القصة القصيرة) في العالم العربي.
هذا اللقب الذي اطلقه عليها الكاتب والأديب الفلسطيني السوري حسن حميد، وهو ممن خبروا أدباء الرقة ونتاجهم الأدبي في هذا المجال منذ خمسينات القرن الماضي حين بدأ الدكتور الأديب الراحل عبد السلام العجيلي بنحت مسار القص الرقّي ليكون رائداً لهذا الفن الأصيل على المستوى العربي بشهادة نقاد وكتّاب عرب، حتى سقوط المدينة وأهلها في نير الشيطان.
استطاع العجيلي أن يجعل لمدينته مكانة مرموقة في مجال الثقافة والأدب منذ أن نشر مجموعته القصصية الأولى (بنت الساحرة) عام ١٩٤٨، وتتالت بعد ذلك النتاجات الأدبية القيّمة حتى وفاته عام ٢٠٠٦، وبقي العجيلي (أيقونة الرقة) ملهماً لمن تلاه من أدباء الرقة.
“ثورة الحرف”
شكل جيل الستينات انطلاقة جديدة على الصعيد الأدبي فيما عُرف لاحقاً باسم (ثورة الحرف) التي اطلقها أدباء الرقة الشباب ممن آمنوا بضرورة تغيير العالم بالحروف، وإحداث ثورة أدبية جديدة تكسر القالب السائد الجامد وشاء الأدب أن يكون هؤلاء الشباب من رواد الأدب السوري فيما بعد وكان من بينهم الناقد والكاتب عبد الله أبو هيف، والروائي إبراهيم الخليل، والقاص الراحل خليل جاسم الحميدي، والشاعر إبراهيم الجرادي.
وتابعت مدينة الرقة مسيرتها الأدبية بخطى ثابتة ومتقدمة نحو نهضة في مجال الأدب وهي الأرض الخصبة الولود التي انجبت لاحقاً القاص محمد جاسم الحميدي والشاعر عبد اللطيف خطاب والقاص رشيد رمضان والروائيان تركي رمضان وأحمد المصارع والشاعر الدكتور أحمد الحافظ والشاعر الدكتور باسم القاسم وغيرهم..

“الحداثة الثقافية”
ترافقت النهضة الثورية الأدبية في المحافظة النائية في أقصى شمال شرق سورية مع عدة مهرجانات سنوية دولية، كانت تُقام برعاية مديرية الثقافة وبمشاركة عربية وعالمية، منها مهرجان العجيلي للرواية العربية، ومهرجان الشعر العربي، ومسابقة القصة القصيرة، ومهرجان الفن التشكيلي الدولي، والمهرجان المسرحي الدولي.
وأصبحت الرقة قبلة المثقفين والإعلاميين العرب والأجانب حيث شهدت زيارة قامات أدبية وثقافية عربية وعالمية خلال العقود الماضية، وقف فوق جسرها العتيق الشاعر نزار قباني عام ١٩٧٩ وقال للدكتور العجيلي: اعطني ليل الرقة واعطيك نساء دمشق.
في إشارة منه إلى إعجابه الشديد بالمدينة الوادعة الهادئة الغافية على ضفاف الفرات، وعلى منبرها وقف الشاعر العراقي مظفر النواب وقال: (مو حزن لكن حزين، مثل صندوق العرس ينباع خردة عشق من تمضي السنين). 
وألقى على منبرها الشعراء البحريني قاسم حداد واللبناني شوقي بزيع والمصري عزت الطيري والعراقي الراحل عبد الرزاق عبد الواحد، والسوري الراحل عمر الفرا، وزارها الأدباء بدعوة رسمية للمشاركة بمهرجاناتها ومنهم أحمد المديني وإبراهيم الكوني ومي خالد وعلي المقري والحبيب السائح وخليل صويلح واسكندر حبش وعبد المجيد زراقط وتركي الحمد وعبده خال والحبيب السالمي وهالة البدري وإبراهيم زراقط ووفيق خنسة ورفعت عطفة وسعد الدين كليب ونور الدين الهاشمي وخيري الذهبي وسوزان إبراهيم ونبيل سليمان وسعاد جروس والشاعر إبراهيم المصري والإعلامية بروين حبيب وقدموا أجمل نتاجاتهم الأدبية وكتبوا مقالات سنعيد جمعها في حملتنا، كذلك لم يكن ينقطع عن زيارتها الشاعر ادونيس الذي كان يستمتع بالوقوف على شط نهر الفرات، كذلك دأب على زيارتها الإعلامي جورج قرداحي الذي خبر باديتها جيداً في رحلات الصيد الدورية، وقضت آغاثا كريستي في الرقة أجمل أيام حياتها ووثقت رحلتها إلى المدينة المنسية بكتابها “قل كيف تعيش” وخصصت فصلاً كاملاً منه للحديث عن الرقة حمل عنوان: الطريق إلى الرقة.

“موت سريري”
بقيت الرقة ثائرة في كل مجالات الثقافة في اللغة والأدب والفن والتراث، وحصدت فرقة الرقة للفنون الشعبية جوائز عالمية في باريس وايطاليا وغيرها من عواصم العالم منذ تأسيسها عام ١٩٦٨ وحتى عام ٢٠١٣، حيث سقطت للمدينة بيد المتطرفين لتتحول من عاصمة للثقافة والأدب كانت تناقس دمشق إلى عاصمة لتنظيم الدولة الإسلامية (داعش).
رغم كل ما جرى ويجري في الرقة منذ سقوطها حتى لحظة كتابة هذه السطور، لم يحظَ بأي اهتمام على الصعيد الثقافي ففرع الرقة لاتحاد الكتاب العرب يغط في نوم عميق ولا وجود حقيقي له، رغم انتقاله إلى مدينة طرطوس ووجود عدد كبير من أهل الرقة هناك، إلا أن الأنشطة معدومة والغياب أصبح واضحاً، علماً أن معظم أعضاء الاتحاد انتقلوا إلى تركيا واطلقوا مشاريع ثقافية (صحف، مجلات) وانضموا إلى ما يُسمى (اتحاد كتاب سورية الأحرار) لكن هذا كله لم يكن كافياً لتحريك اتحاد الكتاب العرب في الرقة.
ربما يحتاج الاتحاد لأكثر من قطع الرؤوس وتعليقها على سور دوار النعيم وسط الرقة ليتحرك ويقوم بثورة فكرية وثقافية تواجه الفكر المتطرف الذي ينشره أعداء الإنسانية في (عاصمة القصة القصيرة).
يبقى الأمل معقوداً على رئاسة اتحاد الكتاب العرب في دمشق التي بدأت مشروعها التنويري بثقة وخطى ثابتة من شأنها أن تنهض بالعقل وتقوّم الاعوجاج، ونحن على ثقة أن الاتحاد سيلتفت قريباً إلى فروعه النائمة والميتة ليبعث فيها الروح من جديد عبر التغيير وضخ دماء جديدة، وهذا ما نأمل أن نراه خلال الأيام المقبلة، ومسؤوليتنا أن لا نترك الرقة للحملات الإعلامية التي شوهتها وأهلها الطيبين، بل يجب أن نطلق معاً حملة ثقافية موحدة تحت شعار: (الرقة عاصمة القصة القصيرة) لتعود كما كانت دائماً، وليست عاصمة لتنظيم القاعدة في سورية، وهي دعوة لكل الأدباء والمعنيين بالشأن الثقافي ممن زاروا الرقة وشربوا ماء فراتها العذب أن يساهموا معنا ويكتبوا عنها، ويشهدوا للتاريخ بما شاهدوه في الرقة خلال إقامتهم فيها.

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *