فلسفة الشخصية في ثلاثية نجيب محفوظ.. “السكرية” أنموذجا




*عبد الحفيظ بن جلولي


خاص ( ثقافات )
تقف الكتابة الرّوائية عند نجيب محفوظ عند المتخيل، تعقد معه اتفاقها المسيّج بالوفاء، محفوظ وهو يجمع بانوراما شخوصه يجعل المتلقي يعتقد أنّه اجتمع إلى هذه الشّخوص في مقهى واتّفقوا على تقاسم الأدوار بما في ذلك دور الرّوائي، على أن يكون مسموحا لهذه الشّخوص أن تقرّر مصائرها وتغيّر من إحداثيات أدوارها إذا وجدت في ذلك مبرّرا يتعلق بها بعيدا عن توجيه الناص.
من سرد النص إلى سرد المتخيّل:
الشخوص عند نجيب محفوظ ليست خيّرة وليست شرّيرة، هي نتاج الخط الفاصل بين ذلك، وهو فضاء المتخيّل، لأنّ الرّواية ليست المتخيّل وحده وليست الواقع وحده، هي الاشتباك بين الفضاءين، فالمقهى المتخيّل “قهوة حسين الكبرى” الذي كان يرتاده كمال رفقة رياض قلدس “بعد أن أتت المعاول على قهوة أحمد عبده التاريخية فمحتها من الوجود إلى الأبد”/ص166، عند هذه الوحدة السردية ينبثق ما يسمّيه أمبيرتو إيكو “الميثاق التخييلي” الذي يعقده القارئ مع الكاتب، حيث تنشأ الثقة في عوالم الكاتب المتخيّلة وكأنّها الواقع الملاحظ حدوثه، فالمقهى الذي أُعدم وجوده ولم يعد واقعا، “قهوة أحمد عبده”، إمكانه الوجودي سردي/متخيل، ينجز وقائعيته نجيب محفوظ في لحظة يتشبّع فيها المتلقي بعالم غيب الرّوائي، فيبني علاقات سردية داخل فضاءه الذهني، فالمقهى الذي لم يعد كائنا، هل كان موجودا بالفعل؟ هل ارتاده محفوظ؟ كيف كان؟
لكي يفجّر الرّوائي مخيال “قهوة أحمد عبد العال التاريخية” يعمد إلى إلغائها إلى الأبد، ففي اللحظة التي ينجز فيها نجيب محفوظ مقهى معدوما سرديا، ينبني كيانا في مخيال القارئ لأنّ عبارة “إلى الأبد” التي تبدو وكأنّها وردت زائدة، هي التي تحث على مناهضة التلقي لمسار السّرد، وتلك هي وظيفة الرواية في بناء المتخيل والانتقال من سرد النص إلى سرد المتخيل.
التداخل الشخوصي/مبدأ التواصل:
يدفع العالم الرّوائي لنجيب محفوظ مخيال القارئ ليشارك في انتاجية المخيال البدئي للنص، وكأنّ نجيب محفوظ يعقد اتفاقا مع القارئ على ذلك، حيث أن “القراءة ليست استهلاكا وإنّما لعب” كما يرى رولاند بارث. يحاول القارئ استعادة الحدث من خلال الوحدات أو المقاطع السردية كرغبة في استكناه قصديات النص المتعدّدة والمتخفّية داخل أنساق سردية هاربة على الدّوام، وهذه الإستراتيجية نابعة من مقدرة نجيب محفوظ على تحقيق المحبّة لنصه، ذلك أنّه ليست هناك قراءة ممكنة ما لم تتحقق محبة النص، حسب جاك دريدا، فالاستفراغ الحكائي لدى نجيب محفوظ يشتغل مرتكزا على مصدر ثري جدّا من العوالم المتحرّكة داخل فضاء الذاكرة النّشطة المهيّأة للاستذكار والاستعادة وتأثيث فضاء ثالث يقع بين الذاكرة أو المخيال الاستعادي والواقع، وخلال هذه الحركة الانتقالية ما بين وقائعية الذاكرة المخيالية ووقائعية الواقع الملموسة تنبني حركة النص الحدثية، حيث تتعالق مفاصل الحكاية وتتواطأ لتفرز تجليها الإغرائي والمتوافق مع مخيال القارئ لتوفر التشاركية المخيالية، فأدب نجيب محفوظ من أهم مميّزاته أنه محلي، أي يعتمد على “الحارة” التي تعتبر النواة الأولى في إنتاجية الواقع المتعدّد والمعقّد في تمظهراته الهندسية والاجتماعية والطبيعية والمعرفية، لهذا نجد عالم الشّخوص لدى نجيب محفوظ متعدّد ومتداخل، وهو ما يؤكده التواصل الاجتماعي داخل الحارة كما هو في الثلاثية، الذي يتم في مستويات متنافرة ومنفصلة، فنجد كمال الملحد يتواصل في يسر مع جليلة عشيقة عبد الجواد، وهو رقيق جدا مع قسوة والده عبد الجواد في نهاياته الوجودية، حيث شفافية ووجدانية الشيخوخة أذابت جليد الجفوة فانبثقت الوشائج الشخوصاتية التي لا تكاد تنفصل إلا لتؤكد تواصلها، فلحظة كمال الذاكراتية: “وكان كمال ينظر نحو الشيخ متولي بعطف، كان يذكر به أباه…”/ص382 ، تقدّم القرينة السردية القريبة على توجه الثلاثية الاتصالي، وهو ما يعكسه بيت إبراهيم شوكت الذي ينتمي إلى الطبقة الاجتماعية الميسورة وزوجته خديجة ابنة عبد الجواد رمز السيطرة أو البطريركية، وابنهما أحمد الشيوعي وعبد المنعم الإخواني، والذي يؤكد اتصال عالم نجيب محفوظ الشخوصي هو تواجدهم في بيت واحد حتى في حالة زواج الأبناء، والاستقلال يكون داخل الكيان الموحّد. إنّ بناء الكيان الشخوصاتي لدى نجيب محفوظ يمتح من التوارد الحكائي الدّارج في أنساق الذاكرة المخيالية، وهو ما يعكسه النص المتواصل والمداهم حكائيا على الدّوام، فتتابع الحدث يرسم حدود التّشويق مما يمنع الانفصال ما بين النص والقارئ، وذلك ليس إلا لتواصل الشخوص البنيوي داخل شبكة النص، وقد يرجع هذا التواصل التخييلي إلى بنية التكوين الشخصي لدى نجيب محفوظ واندماجه في نسيج “الحارة” القاهرية التقليدي، التي يمثل التواصل والتماسك الاجتماعي أعلى درجاتها، فالمقهى مثلا عنصر أصيل في بنائية العلاقة الاجتماعية، لأنه يمثل المستوى الوجودي في أبعاده الاجتماعية والمعرفية والشّخصية، فالجلوس على قارعة المقهى كما اعتاده ياسين في الثلاثية أصبح هوية شخصانية إلى الدّرجة التي تواءم معها الأقارب، فأصبح التذكير به حالة تدخل ضمن المكوّن الشخوصي، وهو ما حصل أثناء مرض الأم أمينة: “آن لك أن تذهب إلى القهوة.. وكان كمال أعرف الناس بمزاج أخيه..”، والخطاب موجّه من كمال لأخيه ياسين، فرد الأخ: “إنها أمي كما أنها أمك !”/383.
وإن كان مسار الحدث يضع هذه الهوية في حركة الفاعل السردي ياسين ضمن مجال اللهو أو المزاجية كما عرّفها كمال، إلا أنّ ياسين كان يمثّل العنصر التوازني بين أطراف المعادلة الشخوصية المتمثلة في كمال وفهمي، ففهمي المناضل السياسي يمثل حركة انجازيه انتهت بموته في سبيل مبدأ الاستقلال الوطني، بينما كمال كان يمثل ارستقراطية المبدأ المعرفي من حيث التأملية الخالصة المعزولة عن حركة الواقع، وبالتالي تتكشف له الحياة من خلال الفلسفة التي كان يحرّك نظرياتها من خلال نقل أفكار الآخرين، وبذلك لا يصبح منتجا لمبدأ بقدر ما يصير فاقدا للفعالية معدوم المبادرة، وهو ما تعكسه حالته الوجودية المكثّفة بالشك الوجودي والعزوف عن الزواج كدلالة بيولوجية تجمع الأجساد والسلوكات، وهو ما خلص به إلى الإلحاد، وما بين هذين المستويين للشخصية عند فهمي المناضل العضوي وكمال المتأمل السلبي نجد شخصية ياسين المزاجية كحالة ترتب فعل التواصل بين الحالتين من خلال الحركة داخل الارتباط بالواقع حتى في مزاجيته. 
منطق السّرد وحركة الشّخوص:
تشرق الكتابة في أفق نجيب محفوظ كمحفل للعناية بالذات في انشغالها بحالها، وكأنّه يشكل شخوصه على هامش الحوار معها حين اجتماعه إليها، والتشكيل الشّخوصي لدى نجيب محفوظ يراعي الجوانب النّفسية والتكوين الاجتماعي للشخصية حتى لكأنّها تظهر نصيا كما لو كانت لصيقة المعايشة بالناص، فهو لا يرغمها على الخروج قسرا من عالمها بل يطلق لها العنان في التمتع بعالمها حتى وهي تنسلخ منه، وفي ذلك خيط صوفي دقيق لقراءة الحال.

عند تتبع شخصية جليلة وهي تنسل شيئا فشيئا من وجوديتها المتواصلة على مسرح السرد بدء من كينونتها المنحرفة إلى تقدّمها في العمر حيث تطل من نافذة الانسلال من عالمها الشهواني على براءة التطهر أو الانتقال من لذة الجسد إلى لذة الروح مخبرة كمال ابن أحمد عبد الجواد عشيقها القديم أنّها سوف تعتزل “سأهجر هذه الحياة”/ص244، لأنّها تريد أن تلاقي الله على غير حالها، “إنّي أفكر في التوبة، ينبغي أن أقابل ربي على غير ما أنا عليه !”/ص244، ثم أردفت قائلة: “لا تخف ستذهب بك عطية إلى بيت آمن كهذا البيت”/ص244 . 
إن توبة جليلة غير متوافقة ومنطق الدين الذي يشترط فيها الإقلاع عن الذنب، لكن نجيب لا يريد أن يقتلع الشخصية من منبتها، فهي توبة بمنطق تربتها ووسطها التي نبتت فيه، توبة بسيطة دون حسابات تعترف فيها جليلة بخطيئتها وتتوجه إلى الله في ارتماءات إنسانية لا تتنكر لعلاقات قديمة ولكنّها تدفعها إلى حيث رغبتها في هدوء وتنسحب هي إلى حيث اشتاقت ورغبت. وفي هذا التثوير لشخصية جليلة ينبثق ملمح صوفي عميق، فلحظة التجلي لدى الصوفي لحظة نسبة إلى المُتجلَّى، فلا تجلي (الذات) دون متجلّى (الله)، وتجلي الذات مسبوق بالتخلي والتحلي، أي أنه تجلي منقوص صائر إلى الكمال المطلق، أي الله، وتلك هي توبة جليلة في بلوغها لحظة صفاء تجلى لها فيها الله، المتجلي المطلق، فانخطفت دون أن تحسب حسابات النّقاء المطلق لأنّها صائرة إليه وهو النّقاء المطلق وحده، والمنزّه وحده عن الخطايا، وهو ذات ما يحدث لشخصية عبد الرحيم باشا الذي يتوق إلى الحج في لحظة لا تخلو من إحاطات نقص، فهو انعطاف نحو المطلق بنقصان النسبي.

شاهد أيضاً

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي منال رضوان     المثنوى المعنوى، وديوان شمس لمولانا جلال …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *