عرب ضائعون في الثقافات الأجنبية


*محمد الأسعد


يتضمن كتاب المستعرب الروسي «إغناطيوس كراتشكوفسكي» (1883- 1951) المعنون «بين المخطوطات العربية» حكاياتٍ تكشف جانباً مهماً من جوانب جولة المخطوطات العربية في أنحاء العالم، وتكشف أيضاً الجهود العلمية النزيهة التي تقف وراء تجميعها ودراستها وحفظها، حيث لا يخلو الأمر أحياناً من أحداثٍ مأساوية ومفارقات، وأضواء تُلقى على أسماء شخصيات عربية مجهولة عاشت في البلدان الأجنبية واختفت آثارها من ذاكرة أوطانها الأصلية.
في الحكاية التي يسردها تحت عنوان «القرآن الكوفي والجدة العربية»، يبعث كراتشوفسكي إلى الذاكرة بإسمين لمثقفين عربيين مارسا التعليم في معهد اللغات الشرقية في بيترسبورغ في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، أحدهما الشيخ الأزهري محمد عياد الطنطاوي (1810- 1861)، والثاني سليم نوفل من طرابلس السورية (1828- 1902). الأول انتهى إلى قبر صغير في مقبرة التتار قرب قرية فولكوفو، ونقلت أوراقه ومؤلفاته إلى مكتبة جامعة بيترسبورغ (150 كتاباً)، أما الآخر، فلا يُعرف سوى أنه اندمج في الحياة الروسية، واحتل مناصب رفيعة في خدمة القيصر الروسي، وضاعت كتبه ومؤلفاته بسبب جهل أبنائه بالعربية، وعدم اهتمامهم بمتابعة جهوده العلمية، فباعوا كتبه في أسواق الكتب المستعملة. وقيض للمستعرب «كراتشكوفسكي» أن يتعرف إلى طرف من سيرة مكتبة سليم نوفل وأوراقه في أحد أيام خريف العام 1936، فكانت هذه الحكاية عن القرآن الكوفي:
«من المعروف أن المخطوطات القرآنية المكتوبة بالخط الكوفي، والتي ترجع إلى القرنين الأول والثاني للهجرة، نادرة. وتوجد عشر نسخ مكتملة معروفة من هذا النوع في العالم كله. وبسبب ندرة هذه النسخ، كانت المكتبة العامة في معهد الاستشراق الروسي تعتز بوجود نسخة قرآنية من التي يُطلق عليها اسم «مصحف عثمان» أو مصحف سمرقند التي حصلت عليها المكتبة بواسطة الجنرال فون كوفمان خلال غزوه لأواسط آسيا. إلا أن هذه النسخة أعيدت إلى سمرقند، مقرها الأصلي، بعد الثورة. وفي العالم أربع نسخ من هذا النوع، وكلها تعود إلى القرن الأول للهجرة. ولا وجود لنسخة مكتملة في معهد الاستشراق في «لينينغراد» حيث كان يعمل كراتشكوفسكي، والأمر نفسه في كل مكان، فمخطوطات القرآن الكوفية لا تمثلها إلا بضع أوراق. وحتى جان- جوزيف مارسيل (1776-1854)، مؤسس المطبعة العربية في مصر خلال غزوة نابليون وعاشق الخط العربي، لم يستطع الحصول إلا على أوراق متفرقة وصل بعضها إلى مكتبة لينينغراد. ولم يكن حظ أمريكا، التي أنشأت مجموعات تفوق في بعض جوانبها مجموعات العالم القديم، أكبر في هذا الجانب».
لكل هذه الأسباب يمكن أن نفهم الإثارة العميقة التي أصابت المستعرب الروسي حين وقعت بين يديه عدة أوراق قرآنية مكتوبة بالخط الكوفي المعتاد. هذه الأوراق، كما يروي، جاءت بها سيدة مجهولة إلى المعهد لبيعها. وقالت إنها ذهبت بها إلى المكتبة العامة فرفضوا هناك شراءها حين اكتشفوا أنها جزء من نص قرآن مخطوط ولا تمثل شيئاً نادراً.
وابتسم المستعرب الذي يقول إنهم لم يكونوا يمتلكون سوى ورقة أو ورقتين من هذا النوع، وها هو يجد بين يديه كمية منها وبحالة جيدة. وأشارت الخطوط المائلة الرؤوس إلى جهة اليمين إلى قدمها. وفيما بعد، ليتأكد من هذا، عرض أمر الأوراق على خبيرين كل على انفراد، أحدهما أمين قسم المخطوطات والثاني استاذ الفن الإسلامي في الجامعة، فجاء جواباهما واحداً؛ اعتقد كلاهما أنها ترجع إلى القرن التاسع وربما إلى أواخر القرن الثامن الميلادي. 
الأمر المعتاد في حالة الحصول على مخطوطة جديدة ولكي تصبح جزءاً من مجموعة علمية، أن يتم السؤال عن أصلها، أو تاريخ حياتها، ولم تكن هناك ملحوظات أو آثار تشير إلى مالكها السابق، إلا أن وجودها محفوظة جيداً يشير بوضوح إلى أنها لم تكن ملكاً لمالك عابر. كانت الصفحات بلا نظام، وربما انتزعت من مجلد، ولكن مجرد حقيقة أنه تم الحفاظ عليها في الأزمنة القديمة، تشير إلى رجل ذي ذوق، هذا إن لم يكن باحثاً أو عربياً احتفظ بها بسبب علاقتها بماضيه القومي.
وحين حاول كراتشكوفسكي التعرف إلى تاريخ المخطوطة، اصطدم برغبة غريبة للسيدة المجهولة في إرباك محاولته تتبع أي أثر يقود إلى مصدرها. هذا الأمر كان معتاداً، لأن الناس الذين يبيعون كتباً أو مخطوطات أثرية يخشون أن تُصادر، أو تتم مساومتهم عليها إذا انكشفت علاقتهم بمالكيها السابقين، وبخاصة إذا كانوا من المعروفين.
في حالة هذه الأوراق قدمت السيدة المجهولة نفسها تحت اسم روسي شائع، وأضافت أن جدتها المتوفاة منذ زمن بعيد، والتي لا تتذكرها، كانت عربية، وقالت إنها وجدت بين مخلفاتها سلة مهملات كان يجب التخلص منها للانتقال إلى منزل آخر، وتوجد لديها إلى جانب هذه الأوراق المخطوطة كتبٌ فرنسية وعربية.
وانتهز المستعرب الفرصة ليسألها إن كان بإمكانه إرسال أحد موظفيه للتعرف إلى أهمية هذه الكتب والأوراق، إلا أنها سارعت إلى القول إن شقتها في حالة فوضى، وإنهم مشغولون بترتيب الأشياء، وستقوم بفحصها بنفسها. وأضافت أن عدة أوراق من النمط نفسه لا تزال لديها في السلة، ووعدت أن تجيء بها عندما أخبرها أن هذا قد يرفع سعر مجموعة الأوراق المخطوطة. وانصرفت المرأة التي لم تعطه عنوانها.
لم يقتنع كراتشكوفسكي بحكاية الجدة العربية. صحيح أن مئات من النساء ظهرن في أيام بعض الخلفاء مثل «الحكم المستنصر بالله» في قرطبة ( 915- 976) اشتهرن بالخط وتلاوة القرآن، ولكن من المستبعد أن تمتلك امرأة في القرن التاسع عشر ومتزوجة من روسي مثل هذه المخطوطة الفريدة.
حين عادت السيدة المجهولة إلى الظهور مجدداً، جلبت معها أوراقاً إضافية، وأصبح لدى المعهد ما يقارب ربع النص القرآني الكامل. ووفقاً لما قالته، فهذا آخر ما لديها من مخطوطات القرآن. وجلبت معها بضعة كتب أيضاً، بعضها روايات فرنسية عادية، وبعضها كتب عربية استشراقية عن الشريعة الإسلامية لا يمكن أن تكون موضوع اهتمام الجدة، حتى وإن كانت عربية. ومرة أخرى فكّر كراتشكوفسكي بهوية مالك المخطوطة القرآنية، عندما لمح فجأة وهو يقلب أحد الكتب الحرفين الأولين من اسم مألوف لديه (أ.ن.)، فقال في سياق حديثه مع السيدة المجهولة: «إذاً، هذا القرآن ربما جاء أيضاً من مكتبة «أريني جورجوفيتش نوفل»، فشحب لون المرأة وهمست: «كيف عرفت؟»، فصارحها بوضوح كيف توصل إلى الاسم، إلا أن هذه المصارحة لم تدفعها إلى البوح بشيء، وأصرت على الصمت. وظلت تنتظر تسليم المبلغ المتفق عليه، ثم سارعت إلى الخروج كما لو كانت تخشى أن يلاحقها أحد. ولم يعرف كراتشكوفسكي، هل فرت من المدينة أم أن اكتشافه لصاحب المخطوطة أبعدها، إلا أنها لم تعد إلى الظهور ثانية.
أريني نوفل أو سليم نوفل بالعربية، كان أستاذ العربية والشريعة الإسلامية في معهد اللغات الشرقية لعدة سنوات، وكان هذا المعهد تابعاً لوزارة الخارجية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. ومثل أغلبية أساتذة هذا المعهد، اعتبر سليم نوفل نفسه موظفاً دبلوماسياً أكثر من كونه باحثاً، وكان وفق ما ظهر من معلومات عنه، دبلوماسياً ناجحاً، ومثّل وزارة الخارجية في كل مناسبة، بل والحكومة أيضاً، من مناسبات مؤتمرات المستشرقين الدولية. ينتمي نوفل إلى عائلة عربية معروفة جيداً من طرابلس السورية، وامتلك ثقافة متوسطية نمطية، وكان يتكلم الفرنسية بطلاقة، وعندما كان في وطنه قسّم وقته مثل كل أبناء طبقته بين التجارة وتمثيل السلطات الأجنبية، والنشاط الأدبي الذي كان يمر في منتصف ذلك القرن بمرحلة نهوض. بل إنه كتب روايات لقيت بعض النجاح. واجتذبت شخصيته وزارة الخارجية. وعندما مرض الشيخ عياد الطنطاوي مرضه الأخير، استدعي نوفل ليحل محله.
_______
*الخليج الثقافي

شاهد أيضاً

أبورياش: المثقف معني بكل شيء في وطنه وعليه إشعال المزيد من الشموع لإنارة الطريق

الأديب موسى أبو رياش: المثقف معني بكل شيء في وطنه وعليه إشعال المزيد من الشموع …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *