*محمد العباس
أيمكن أن يمر إعلان القائمة الطويلة للجائزة العالمية للرواية العربية (بوكر) كما يمر أي خبر ثقافي؟ بالتأكيد لا.
فالجائزة حدث ثقافي أكثر من كونها مجرد مسابقة لقياس الكفاءة الإبداعية، وكالعادة بدأت التعليقات الساخنة تظهر تباعاً بعد موجة التبريكات والمجاملات، أي بمجرد ظهور الأسماء المتأهلة، حيث بدأ فرز النتيجة الأولية، بمنظور بعض المتابعين، من منطلقات إقليمية أو بما يشبه المحاصصة، وهي تهمة طالما وُجهت إلى الجائزة، لدرجة أن وجود ثلاثة أسماء فلسطينية لهذه الدورة أوحى لبعض القراء والمتابعين رغبة القائمين على شد الجائزة بهذا الاتجاه.
ومن جانب آخر تصاعدت الشكوك عند آخرين في كون الجائزة جائزة دور نشر وليست جائزة للإبداع الروائي، بدليل تأهُّل ثلاث روايات لمنشورات (ضفاف)، وهي تهمة أيضاً صاحبت الجائزة منذ دورتها الأولى، مع تلميحات إلى أن بعض دور النشر لم ترم كل أوراقها في البوكر، لتدخر ما تراهن عليه من إصداراتها لجائزة (كتارا) بموجب وعود بالفوز، فيما يشير إلى وجود قوة ثقافية متعددة الأطراف، قادرة على التحكّم بحال ومآل الجوائز، حتى صارت أمراً واقعاً في الحياة الثقافية العربية.
وهكذا تستمر القراءات الخارجية للنتيجة، بعيداً عن النص الأدبي، على قاعدة المؤامرة، وهي قراءات ساخطة يقترفها بعض الروائيين الذين لم تتأهل رواياتهم غالباً، إلى الحد الذي يجعلهم يشككون في عداء القائمين على الجائزة لأوطانهم، وهي ردات فعل مفهومة، يمكن استيعاب حدتها عند ملاحظة نبرة التشكيك في لجنة التحكيم المتهمة على الدوام بعدم الكفاءة والتحيّز واللامبالاة إلى آخر الإتهامات، التي تصاعد دخانها لتتحول إلى فكرة آخذة في التشكُّل والتوطُّن في ذهنية الروائي والقارئ العربي، وتقوم على وجود مافيا جوائز التحكيم، وهي عصابة من النقاد والمثقفين والمتنفذين في الثقافة العربية، تتحكم في مفاصل وحيثيات وأسماء وتوجهات الجوائز التي ازدهر سوقها بظهور الجوائز، أي منذ عقد من الزمن تقريباً، بالنظر إلى ما تعد به تلك الجوائز من مجد أدبي ومن قيمة مالية سخية.
هذا الاتهام الذي يتحرك أيضاً خارج سياق النصوص الأدبية يؤكد على تآكل سمعة الجوائز، وانعدام الثقة في لجان التحكيم التي تنال النصيب الأكبر من التهجّم والاستخفاف، ولكن المفارقة أن الروائيين لم يتوقفوا عن المشاركة، سواء من الأسماء ذات السمعة والمكانة في تاريخ الرواية العربية، أو تلك الملتحقة بالفعل الروائي بإصداراتها الشبابية الجديدة، بل هناك زيادة مطردة في عدد المتلهفين للفوز بالجائزة، من خلال إصدارات موسمية أشبه ما تكون بمحاولات اليائس للفوز بلعبة اليانصيب، كما أن القارئ الذي لا يكف عن إصدار التعليقات اللامسؤولة عن الجائزة واللجنة، ينتظر بفارغ الصبر إعلان القائمة الطويلة ليضع عينيه على نقطة مركزية في أطلس الرواية العربية كل عام.
لجنة التحكيم التي تعمل على فرز عشرات الروايات لاستخلاص ست عشرة رواية قابلة للقراءة لا تستحق أي التفاتة، لا من قبل الروائيين ولا القراء، بل العكس هو الصحيح، أي التقليل من قيمة جهودهم والاستخفاف بعملهم المجهد، والأسوأ أن بعض القراء يرون أن ذلك العدد أكبر مما يتسع له وقتهم ومزاجهم القرائي، فيمتنعون عن القراءة بانتظار القائمة القصيرة، بعد نخل القائمة وغربلتها، في مهمة أصعب من سابقتها على لجنة التحكيم، والأمر الذي يغري بعض القراء بالتأني السلبي في التماس مع تلك الروايات، وجود صحافة ثقافية تهاجم بلا هوادة النتيجة الأولية من ناحية، وتجتهد من ناحية أخرى لرفع رصيد رواية والتقليل من شأن أخرى، من خلال إجراء تحقيقات مع أسماء ثقافية قادرة على إطلاق التصريحات وإصدار الأحكام بلا مبالاة ولا مسؤولية وبدون مطالعة أي رواية، إنما من خلال أهواء مزاجية تقع كلها خارج النص.
القائمتان الطويلة القصيرة لا تخصعان لأي شكل من أشكال القراءات الجادة بانتظار إعلان الرواية الفائزة، وهذا هو الحد الممكن لبعض القراء ليثبت متابعته لحدث الجائزة، فهو غير معني أصلاً إلا بقراءة الراوية المتفق عليها تحكيمياً، المتوّجة بوسام الفوز، أو على الأقل معرفة الرواية الأكثر حظاً، ولأنه لم يكلف نفسه عناء ومتعة قراءة الروايات الأخرى تبدأ حفلة الطعن في النتيجة، وكأن القراء تعرضوا لخديعة من قبل لجنة التحكيم، الأمر الذي يشجع الروائيين الذين لم تحظ رواياتهم بفرصة الاصطفاء على التشفي مرة أخرى بالجائزة واللجنة، انتقاماً من اللجنة التي لم تلتفت لأعمالهم، كما تُلتقط تلك التبرمات في وسائل الإعلام من خلال تصريحات حانقة لا تمت إلى الأدب بصلة، في الوقت الذي يؤكد فيه أولئك الروائيون على عدم قراءتهم لروايات مجايليهم ومنافسيهم على الجائزة، وهنا تكمن خطيئة ثقافية أخرى لا علاقة لا للجائزة ولا للجنة التحكيم بها.
إن الروائي الذي لا يرى في المشهد غير روايته، لا يحق له أن يحكم على روايات الآخرين، وكذلك القارئ الذي يكتفي بمطالعة الرواية الفائزة ليس له الحق في تقويم الجائزة ولجنتها، لأن كل ذلك يدخل في باب ردّات الفعل الخارجة عن أصول المنافسة الشريفة ومستوجبات الحالة الإبداعية، لأن أي مسابقة لا تحتمل إلا فائزاً واحداً، أما جهد بعض الروائيين في البحث عن مسالك خفية للوصول إلى لجنة التحكيم والتأثير عليها فليس من الأدب في شيء، وكذلك تلك العطالة الفائضة من بعض القراء الذين ينامون طوال العام ولا ينتبهون من سباتهم القرائي إلا لحظة إعلان النتيجة ليكيلوا الاتهامات للجائزة واللجنة والرواية الفائزة.
وإذا كانت تلك المظاهر تعكس أزمة حقيقة في وعي الروائي بمعنى التنافس الأدبي، فإنها تشير من ناحية أخرى إلى أزمة في التلقي عند فئة عريضة من القراء، وهو الأمر الذي لا يهدد الفعل الروائي وحسب، بل يستبقي تلك التشوهات وينعشها كل عام، وكأن المشهد الثقافي يعيش على موعد موسمي مع سجالات خارج الخطاب الروائي، فيما تُترك الروايات بدون قراءة لتدفعها موجة أخرى من الروايات الجديدة وهكذا، بمعنى أن تلك الإثارة الرخيصة التي يؤدي فروضها بعض الإعلاميين، لا تنشّط المشهد الثقافي، ولا ترمّم جراح الروائيين الخاسرين، بقدر ما تثير النعرات الإقليمية وتؤجج الصراعات الشخصية، وبالتالي تسد منافذ الإبداع.
مقابل ذلك الصنف من القراء السلبيين والروائيين المتبرمين، هناك سلالة من محبي الرواية، الذين يعلنون عن امتنانهم لوجود جائزة هي بمثابة الدليل للرواية العربية، ويقدرون بالفعل قيمة الجهد المبذول من قبل اللجنة لاستخلاص ما يمكن أن يكون عنواناً لما تبدو عليه الرواية العربية، مع معرفتهم التامة بأن اللجنة ليست على تلك الدرجة من الملائكية والمنهجية، وأن الجائزة ذاتها لا تخلو من حسابات لاأدبية، وأن هناك روايات من خارج المنافسة قد تكون أفضل من الرواية الفائزة، كما أن اللجنة استبعدت روايات حققت عدداً كبيراً من الطبعات والإقبال الجماهيري، فالجائزة ليست دليلاً حاسماً على دقة الاختيار، ومن يقبل بالاشتراك في المسابقة أو بمتابعتها فليكن على مستوى المسؤولية في تقبُّل نتائجها.
بمقدور أي أحد نقد الروايات المشاركة والفائزة من داخلها كنصوص وليس من خارجها بموجب أهواء مزاجية أو غيرة شخصية، وليس شرطاً أن يقدم طرحاً نقدياً منهجياً لكل ما يقرأ، إذ يكفي وجهة نظره كقارئ، شريطة أن يكون قد قرأ الروايات ليتمكن من المفاضلة بين رواية وأخرى، بمعنى أن يُعد قائمته الخاصة بالروايات الجديرة بالقراءة، وبالتالي يمكن أن يكون رأيه محل احترام وتقدير، كما يمكنه أن يجادل في بيان لجنة التحكيم الذي يتم الإعلان عنه مع الحفل الختامي، بما يحتويه من رؤى فنية وإشارات تبريرية، بموجب مقروئيته الخاصة للروايات المتأهلة، أما الثرثرة المجانية قبل قراءة الأعمال وقبل إعلان النتيجة النهائية فهي ضرب من الخفة واللامبالاة، فكل ما يقع خارج النص لا يُعتد به، وتلك القراءة الشعبية الموازية هي وحدها الكفيلة بإبطال مفاعيل مافيا الجوائز، التي صارت حقيقة وليست مجرد تخرصات.
________
*القدس العربي