*عزيز الحدادي
«لما كان الشبيه شبيها بمقدارنا يسمح الاختلاف، ولما كان الفكر والشعر متشابهين من حيث عنايتهما باللغة، فإنهما في الوقت نفسه على طرفي نقيض من حيث ماهيتهما. الفكر ينطق بالوجود، أما الشاعر فيسمي ما هو مقدس»
هايدغر.
يختم الشاعر سوفوكليس إحدى قصائده بهذه الكلمات التي تشل حركة التاريخ لذلك الشعب المقهور، يقول: «ولكن كفوا الآن، ولا ترفعوا أصواتكم منتحبين، لأن هذا كله قضاء محتوم»، لأنه لا معنى لهذا البكاء الذي يأتي متأخراً، بعد فوات الأوان، فموت حقيقة الوجود يعجل بظهور عصر التراجيديا، ويرغم روح العصر على المغادرة، والانسحاب في الصمت الطويل الذي يطهر الفضاء من عقل الأنوار، من أجل أن لا ينطق الفكر بالوجود، بل يسمي المقدس، هكذا يلبي نداء الابتهالات المنبعثة من أحزاب الأولياء والأضرحة التي حولت الأرواح إلى أجساد طبيعية خاضعة لإرادة الزعيم، الذي يدعوهم إلى التضحية بالوجود، والعناية بالعدم، لكن لماذا أن هناك تمزقا للعقل في ظل أركيولوجيا الصمت؟ ولماذا أن الحقيقة أصبحت تخضع لمرسوم حكومي؟ ولماذا أن الفكر أصابه العقم والشلل من جراء صدمة عصر التيولوجيا؟
ربما يكون هذا النوع من الأسئلة مرعبا لفكر الطاعة الذي يريد مكاناً في تاريخ الإنسان، بيد أن المعرفة التي ينتجها لا تؤدي إلى نتائج، من الممكن استثمارها في الحاضر، لأنها مجرد معرفة الماضي بالماضي، وليست ذات تأثير في الفكر المعاصر، ومثل هذا الفكر لا يسمح للحقيقة بالوجود، لأنه هو نفسه عدم. ولذلك يتعين علينا أن نقدم الحقيقة في حلقة جديدة تسمح بإثارة شهية الفكر المعاصر، لأن الاستسلام إلى هذه الغبطة المبتهجة سيعجل بالعودة إلى عصر السياسيين أصحاب الأرواح الميكانيكية، إذ يجب على الشعب المتنور أن يتحرر من هذه الأرواح التي استعبدته بواسطة الأوهام وتخدير الإدراك بالعقيدة، فليس من قبيل الصدفة أن يجد الفكر نفسه في صراع مع التيولوجية والهيمنة السياسية، بدلا من حوار مع اللوغوس، باعتباره متبرما للغة الوجود، لأن غياب اللوغوس معناه غياب المترجم، مما يجعل البحث عن حقيقة الوجود تتلاشى في ذلك المدى البعيد. والحق أن كتاب الحقيقة يجب أن يصبح من الكتب النادرة في سجل الفكر العربي، لأنه لأول مرة يتساءل عن علاقته بالحقيقة، ويعرف نفسه، بأنه لا يعرف الحقيقة، وكل ما كان يعرفه مجرد كذبة مقدسة، لا صلة لها بالعلم والفلسفة، خاصة أن كل العلماء والفلاسفة قد طردوا وتركوا مكانهم للسفسطائيين وحراس العدمية، الذين اعتقلوا الفكر في قواعد محددة سلفا ومستعارة من سجل علماء الكلام، ومن المربك أن نتجاهل تاريخ الفكر ومدة إقامته في العدمية، لأن بداية كل فكر تكون مع الحرية، والفكر الذي يكون محروما من الحرية يتيه عن البداية، ولذلك فإن تسمية الفكر العربي ليست سوى استعارة لاسم الأيديولوجية العربية، لأن الفكر لم يولد حتى يومنا هذا، ولن يولد إلا بنسيان الوجود، والحفر الأركيولوجي على بنية الحقيقة، إذ لا ينبغي أن تكون هناك حقيقة واحدة، تهدد الحقائق الأخرى بالموت.
لا أريد لهذا الفكر أن ينتهي في المأساة، ولا لهذا الشعب أن يستمر في الشقاء، لأن المسافة التي تفصله عن الوعي بالذات، مسافة قصيرة، مكتوب عليها بحروف بارزة، الوعي التاريخي، باعتباره لحظة أساسية في مسار الفكر الذي لا يجد نفسه إلا في ظاهريات الروح: «ومن طبيعة الروح أن تنقسم على نفسها، ولكنها تعود بنشاطها الخاص فتشق لنفسها طريقا جديدا، أعني أن مبدأ العودة إنما يكون في الفكر».
بإمكان الروح أن تقوم برحلة الاكتشاف عبر سفينة الوجدان وتتمتع بالهذيان، لكن ليس بإمكانها أن تعود ألا بواسطة الفكر. بيد أن هذه العودة المبتهجة لن تكون سهلة، بل ستخوض صراعا شرسا من أجل أن تنزع عن نفسها تلك القشور الفارغة، وتعرف أنها في محنة وشقاء، تطلب من الفلسفة أن تساعدها على معرفة ما هي عليه: «بل أن تعينها على استرجاع تلك الجوهرة المفقودة، وذلك الوجود الصلب الذي لا شرخ فيه».
الوعي بالضياع يعيد للروح جوهريتها، ولكن عندما تغادر ميناء الوعي الساذج وتتوجه إلى الأمام لإدراك الحقيقة، وتمزق عنها حجاب العواطف والانفعالات، فالحقيقة هي الطعم المطلوب لإثارة الرغبة في العض والنشوة الدائمة. لأنه كلما كان الفكر بعيدا عن الحقيقة، فقد هذه النشوة، وأعني بها نشوة الروح، التي هي عكس الحماس المشتعل، الذي ينتشر كالسرطان في الجسد العربي، حيث الكل يقاتل ضد الكل، فمن سينتصر؟ وهل حان الوقت لعودة الروح إلى الفكر؟ وهل يوجد الفكر بدون وجود الحرية؟ وهل هناك موضوع آخر للفكر غير الحقيقة؟
_______
*القدس العربي