*عبده وازن
ليس كتاب الناقد فيصل دراج «جبرا إبراهيم جبرا» (الصادر حديثاً عن مجلة «دبي الثقافية») هو الأول عن صاحب «صراخ في ليل طويل» ولن يكون الأخير، فالناقد الفلسطيني الطليعي هو أحد العارفين بأدب جبرا وخصائصه الجمالية والقضايا التي طرحها.
وقد يضم كتابه الجديد خلاصة عمله في الميدان «الجبراوي» بحثاً وتنقيباً ومقاربة ثقافية ونقدية. ويوضح دراج أن قراءته لظاهرة جبرا كانت تمت على مراحل ثلاث، الأولى جاءت مبتسرة وفيها اختصره إلى «روائي شكلاني يخلق بطلاً فلسطينياً وهمياً لا علاقة له بالواقع»، أما الثانية فكانت بعد محاورته جبرا وتعرفه إليه ولامس فيها الوجوه الجمالية في رواياته من غير أن يأخذ كما يعبر بصورة البطل الفلسطيني الاستثنائي التي يتعايش عبرها الحلم والواقع ويلتبس فيها البطل بمدينته المقدسة، القدس. القراءة الثالثة عاين دراج جبرا في وجوهه الإبداعية كافة. ويرى دراج أن الإنسان في جبرا يظل أوسع من كتاباته، وأن الفلسطيني فيه يبقى أرحب من رؤاه الفكرية. وبحسبه كان جبرا شاعراً في رواياته قبل أن يكون روائياً وشاعراً رومنطيقياً بخاصة. إلا أن دراج يؤكد في ختام المقدمة أن كتابه هذا هو عن جبرا قبل أن يكون عن رواياته وعن جبرا الفلسطيني قبل أن يكون عن الشاعر الرومنطيقي.
وفي منأى عن محاور الكتاب التي ارتكزت إلى الوجوه المتعددة لدى جبرا ما خلا وجه الشاعر، صاحب التجربة التموزية البارزة، أسعى هنا إلى إضاءة هذا الوجه الذي نادراً ما تم تناوله على رغم مكانة جبرا الشعرية والدور الذي أداه في تأسيس الحداثة الشعرية وفي مجلة «شعر» التي كانت موئل هذه الحداثة عربياً. وأعتقد أن إطلاق صفة الرومنطيقية على جبرا الشاعر ليست مؤاتية ولا تمثل حقيقة تجربته الشعرية الخاصة جداً لا سيما كما تجلت في دواوينه وفي مقدمها «تموز في المدينة» الذي صدر عام (1959).
جبرا إبراهيم جبرا الشاعر هو غير جبرا الروائي والناقد والمترجم والكاتب المتعدد الأساليب.. صورته كشاعر ظلت أقل رواجاً من صوره الأخرى، وأثره الشعري لم يكن كأثره الثقافي عموماً، إذ لم يظهر بوضوح على الجيل الشعري الذي تلاه أو على الأجيال اللاحقة، بينما كان أثره الثقافي عميقاً وفاعلاً، خصوصاً عبر ترجماته التي نجح في اختيارها وفي صوغها عربياً لاسيما ترجمته لمآسي شكسبير ورواية وليم فوكنر «الصخب والعنف» التي تركت أثراً في الرواية العربية.
غير أن حضور جبرا لم يكن خفراً ولا ضئيلاً في المرحلة التأسيسية الأولى للحداثة الشعرية، فهو يختلف كثيراً عن أدوار الرواد خصوصاً في التنظير والمتابعة النقدية. وثقافته الأنغلوساكسونية العميقة خولته أن يخوض غمار الحداثة وأن يرسخ بعض المصطلحات وأن يجيب – نظرياً – على الكثير من الأسئلة التي طرحت آنذاك بإلحاح. وهو ينتمي بحق إلى رواد المدرسة الأنغلوساكسونية التي ضمت يوسف الخال وتوفيق الصايغ وغيرهما والتي قرأت جيداً إليوت وباوند وعرّفت القراء العرب بهما. وهو أيضاً واحد من مؤسسي الموجة التموزية التي ازدهرت في الخمسينيات وقد تكون ترجمته نص جيمس فريزر عن «أدونيس» (أو تموز) هي السباقة في توضيح هذه الأسطورة وسبر أعماقها، وإنْ كان أنطون سعادة تناولها قبلاً في إطار قراءته للميثولوجيا السورية.
جبرا إبراهيم جبرا الشاعر هو صاحب أكثر من ديوان شعري تجلت تجربته من خلالها أفضل تجلّ. وشاء أن يجمع أعماله الكاملة عام (1990) (دار رياض الريس) أسوة بمعظم الشعراء لا سيما بعد اعتكافه النهائي عن كتابة الشعر، وهو أصلاً كان هجره فترة طويلة منصرفاً إلى شواغله الأخرى النقدية والسردية..
عندما صدرت الأعمال الكاملة بدت كأنها تعيد إلى الذاكرة تجربة جبرا وصورته كشاعر مؤسس وتحاول إنقاذها من النسيان الجزئي الذي حل بها قسراً. استهل جبرا مساره شاعراً ثم ولج عالم الرواية وأكمل مشروعه النقدي وراح يرسخه. ومع نفاد ديوانه الأول «تموز في المدينة» بعيد صدوره الأول عام (1969) وافتقاد ديوانه الثاني «المدار المغلق» كاد يغيب أثر جبرا وبات شعراء الأجيال اللاحقة يبحثون عن شعره بجهد. ومعروف أن الديوانين الأولين يمثلان جوهر تجربته ويختصران رؤيته الشعرية وآراءه. أما الشعر الكثير الذي كتبه فيما بعد ولم ينشره – كما يعترف في مقدمة أعماله الكاملة – فهو رجعٌ لأصدائه الشعرية البكر إذ لم يخرج عن النمطية التي وسمت قصائده في اللغة والأسلوب.
لا ينفي جبرا في تقديم ديوانه الأول الذي تبنته مجلة «شعر» أن ألفاظه مباشرة في المعنى والاستخدام، وأنه يمقت النعوت ويؤثر الألفاظ المجسدة. وهذا الكلام يبرر الجفاف الذي يسم شعره عموما،ً فقصائده غالباً ما تخلو من الصور والمجازات والتشابيه ولغته مجردة وقاسية لا تعرف أي وهن أو خلل تبعاً لتماسكها وانضباطها. لكنّ جبرا يلجأ إلى البناء الموسيقي كما يقول ليعوض نقص الصورة وفقدان الإيحاء. وموسيقاه كما يعبر هي »أوركسترالية» المبنى، لا تحصرها التفاصيل التي يُعنى ولا يعنى بها، والقصيدة في نظره تحوي عدة آلات (موسيقية) ومتباينة وموضوعات «مترابطة تتلاعب وتنمو نحو غايتها».
لم يكتب جبرا كثيراً من الشعر ودواوينه لا تتعدى الثلاثة وهي بحسب تواترها الزمني: تموز في المدينة (1959)، المدار المغلق (1964)، لوعة الشمس (1979) وضمت الأعمال الشعرية الكاملة كتيباً صغيراً سماه «سبع قصائد» (1989). لكنه يشير إلى أن أعماله الكاملة ليست كاملة لأنه كتب شعراً كثيراً بالإنجليزية ولا يزال غير منشور حتى الآن. لكنّ هذه الدواوين تمثل معظم نتاجه الشعري وتعبر عن الهم الشعري الذي طالما سكنه طوال عقود، نظرياً وكتابة وبحثاً ونقداً وترجمة. وكان الشعر في نظره قضية مركزية من قضايا الحياة العربية وقد وجد فيه «وسيلة من وسائل إنعاش المخيلة القومية على مستوى العصر». ولا غرو أن يرى جبرا في الشعر «قوة أخرى من قوى التغيير في المجتمع كله». وكان جبرا في طليعة الشعراء الذين نادوا بمفهوم الشعر الحر، وهو المفهوم الحقيقي مصطلحاً ونصاً، فاصلاً بينه وبين قصيدة التفعيلة وقصيدة النثر أيضاً. وقد اختلف في مفهومه مع النقاد والشعراء الذين دمجوا الشعر الحر بالشعر التفعيلي القائم على النظام العروضي المتطور. ورأى في الشعر الحر «توسيعاً لطاقات اللغة وأشكال القول ومؤشراً لطاقات ما زالت كامنة في اللغة والقول».
عندما أصدر جبرا ديوانه «تموز في المدينة» بدا أن نمطاً شعرياً جديداً يتجلى في أفق القصيدة العربية، نمطاً ليس غريباً تماماً عن ثورة القصيدة التفعيلية التي كان أطلقها شعراء عراقيون من أمثال بدر شاكر السياب ونازك الملائكة، وليس غريباً أيضاً عن بعض مرامي قصيدة النثر وتقنياتها الحديثة. ويوضح جبرا في مقدمة ديوانه الفريد هذا أنه يعنى ولا يعنى بالتفعيلة، فبعض الأبيات أو الأسطر الشعرية موزون وبعضه غير موزون، والأمر نفسه ينسحب على القوافي التي يستخدمها حيناً ويغفل عنها حيناً. أما سر عمله الشعري فيقوم على «موسقة» الفكرة والصورة كما يعبر، رافضاً رفضاً تاماً أي بحر عروضي رتيب.
إلا أن «ثورة» ديوان «تموز في المدينة» لم تقتصر على الإيقاع المتحرر الذي حققته القصائد ولا على الشكل الجديد والتقنيات الأسلوبية ومنها استخدام الألفاظ المباشرة والمجسدة ورفض النعوت ومصادر الأفعال والابتعاد عن الانثيال العاطفي والوجداني، بل إن ثورته شملت أيضاً المضمون أو العمق، فالشعر هو شعر قضية وفكر وبعد حضاري. وقد رسخ جبرا في ديوانه هذا الشعر التموزي الذي مثّل موجة واسعة شارك فيها السياب وأدونيس وخليل حاوي ويوسف الخال وعبد الوهاب البياتي وسواهم. بدا ديوان جبرا كأنه يتمثل الظاهرة التموزية في أبعادها كافة الرمزية والوجودية والقومية.
ومع أن التجربة التموزية في الشعر العربي الحديث لم تصمد كثيراً كموجة أو تيار حاول البحث عن معادل أيديولوجي للموقف الشعري، فإن ديوان «تموز في المدينة» ظل إحدى علامات هذه التجربة الفريدة. ولعل الشعراء الذين سموا أنفسهم «تموزيين» ومنهم جبرا ما لبثوا أن انتقلوا إلى تجارب أخرى معيدين النظر في مشروعهم الحضاري- السياسي، وفي علاقتهم بالواقع وعلاقة الواقع بالأسطورة. لم يخن «تموز» شعراءه ولا الشعراء التموزيون خانوا أسطورة الموت والانبعاث، لكن القطيعة حلت بين الواقع وتأويله التموزي أو بين الأسطورة وإسقاطاتها الواقعية. وفيما أمعن الشعراء في رؤاهم التموزية الكبيرة راح الواقع العربي يزداد اغتراباً وإغراقاً في «الموت» المجازي مبتعداً عن احتمالات الانبعاث. ومن خيبة قومية إلى خيبة وجودية أدرك الشعراء التموزيون أن الأسطورة مجرد أسطورة وأن الواقع هو الواقع بهزائمه وأزماته.
لذلك كان على بدر شاكر السياب أن يبحث عن وجه آخر لتموز وأن يستوحي تجربة الصلب، وكان على خليل حاوي أن يصمت فترة طويلة وأن يختلج بصمته ويحاول الكتابة بمرارة ونزق كي يؤجل موته المأسوي ويخفف من ثقل خيباته. وكان أيضاً على يوسف الخال أن يتجه نحو مساحات أخرى باحثاً عن ولادة جديدة سواء عبر اللغة أم عبر التجربة الروحية والميتافيزيقية، وكذلك أدونيس الذي اتجه نحو ملحمية اللحظة الشعرية. أما جبرا فشرع يبحث عن آفاق شعرية يندمج فيها الخلاص الذاتي بالخلاص الجماعي.
تغنى الشعراء التموزيون وفي مقدمهم جبرا بالانبعاث وتبنوا أسطورة تموز وحملوها آمالاً كبيرة وأحلاماً وأسقطوها على الواقع السياسي وتحولاته حتى أصبحت التموزية تياراً فكرياً وشعرياً في آن واحد. وأكثر الشعراء من استعمال اسم تموز ومرادفاته في الحضارات المختلفة وأجادوا في توظيف أسطورته توظيفاً إيحائياً حيناً ومباشراً حيناً آخر. وكان جبرا ترجم لتوه الفصل المتعلق بأسطورة تموز أو أدونيس من كتاب جيمس فريزر الضخم «الغصن الذهبي» الذي كان له أثر كبير على شاعرين رفدا الشعر العربي الحديث هما:
ت س إليوت وعزرا باوند.
يحتاج جبرا الشاعر إلى المزيد من القراءات النقدية بغية إلقاء الضوء على تجربته الفريدة في خطها التحديثي وعلى موقعه المتقدم في حركة الحداثة حتى وإن أضحى شعره من تراث الحداثة نفسها. لقد شُغل النقاد بجبرا الروائي والناقد والمترجم، وكادوا ينسون الشاعر الذي كان وجه جبرا الحقيقي، الدائم الحضور.
________
* مجلة دبي الثقافية