*حسونة المصباحي
أمضى المفكر المصري الراحل نصر حامد أبو زيد (1943-2010) العقدين الأخيرين من حياته مدافعاً بشراسة وشجاعة عن أفكاره التي شرحها شرحاً وافياً في مجمل مؤلفاته. فعل ذلك بلغة واضحة، وبأسلوب رفيع ،وبذكاء العارف المتعمّق في المواضيع التي عالجها.وقد ألّبت عليه أفكاره أعداء الفكر والحرية فحاربوه بضراوة وقسوة، وأصدروا في شأنه أحكاماً غريبة أجبرته على ترك بلاده ليعيش حتى وفاته في هولندا مدرّساً في جامعاتها المرموقة، مواصلاً العمل بلا كلل ولا ملل. وبرغم المعاناة المريرة التي عاشها في مواجهة خصومه الحاقدين والجهلة ،ظلّ نصر حامد أبو زيد محافظاً على مبادئه، رافضاً الاستسلام والتراجع. وتلك هي سمات المفكر الحر بالمعنى العميق والحقيقي للكلمة.
وقبل وفاة نصر حامد أبو زيد بأسابيع قليلة، كنت قد انتهيت من قراءة واحد من أروع مؤلفاته، أعني بذلك «هكذا تكلم ابن عربي». وقد أهدى كتابه هذا إلى ثلاثة راحلين اقتدى بهم، وبهم تأثّر في تفكيره وفي أبحاثه. لذا كان موتهم خسارة فادحة بالنسبة له. وهؤلاء هم المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد الذي «حوّل سؤال الهويّة إلى مشغل إنساني ضدّ التعصّب والتطرف والجحود»، والمستشرقة الألمانية أنا ماري شيمل، التي «وهبت حياتها الأكاديمية والشخصية لمدّ الجسور وحفر قنوات التفاهم والتعاطف بين العالمين الإسلامي والغربي». «أما الراحل الثالث فهو فتحي نجيب» ابن مصر وأحد قضاتها الأفذاذ، جمع في إهاب واحد- كابن رشد-عقل الفيلسوف، وروح القاضي وقلبه، وحمل هموم مصر وناسها فلم يحتمل القلب المرهف كلّ هذا العناء».
ولعلّ كتاب «هكذا تكلم ابن عربي» هو الكتاب الأقرب إلى شخصية مؤلفه من بين كلّ مؤلفاته الأخرى إذ إنه ضمّنه بشكل متستر البعض من جوانب تجربته الروحية والدينية.لذلك هو يسرد في المقدمة كيف أنه تعلق في طفولته في الريف المصري بقصص الأنبياء وكرامات الأولياء وأحاديث الصالحين من أسلاف قريته والقرى المجاورة لها. وفي الكثير من المرات حضر حلقات الذكر التي كانت تنتظم في المساجد فتسحره الأناشيد والإيقاعات التي ظلت راسخة في ذاكرته حتى بعد أن تقدمت به السنّ، وتعرف على ثقافات مختلفة وبلدان كثيرة. وفي مقدمة كتابه، يكتب نصر حامد أبوزيد قائلاً: «لم يكن الحافز على دراستي للتصوف ولفكر ابن عربي بصفة خاصة هو فقط ذلك الشوق النابع من تجارب الطفولة الدينيّة في قريتي، بل أضيف إلى ذلك رغبتي في استكمال معرفتي بقطبي التراث العربي الإسلامي الأساسيين: العقلانية والروحانية».
ويرى نصر حامد أبوزيد أن التجربة الصوفيّة في التراث الإسلامي كانت في جانب كبير منها «ثورة ضدّ المؤسسة الدينيّة» التي حولت الدين إلى مؤسسة سياسية اجتماعية مهمتها الأساسية الحفاظ على الأوضاع السائدة ،ومساندتها من خلال آليات إنتاج معرفة ثابتة يقف على رأسها «الإجماع»، ويليه «القياس». لذلك يعتقد نصر حامد أبوزيد أن العودة إلى الشيخ محي الدين بن عربي تبدو ضرورية إذ إن عالم اليوم، عالم القرن العشرين،بات مفزعاً بسبب خلوّه من التجارب الروحية الكبيرة.أما العالم العربي الإسلامي فهو يعيش حقبة «الأصوليّات المتطرفة» التي أفرغت الدين من مضامينه الروحيّة العميقة لتحوله إلى «أيديولوجيا» تبيح القتل والتكفير. وعن الشيح ابن عربي ،كتب نصر حامد أبوزيد يقول: «ترجع أهمية فكر ابن عربي إلى أنه يمثل حالة نضج في الفكر الإسلامي في مجالاته المتعددة من فقه ولاهوت وتصوف، هذا فضلاً عن علوم «تفسير القرآن»، وعلوم اللغة والبلاغة.. إلخ».
ويقدم لنا نصر حامد أبوزيد تعريفاً مفصّلاً عن حياة الشيخ محي الدين بن عربي مشيراً إلى أنه ولد في مدينة «مرسية» بالأندلس في السابع والعشرين من شهر تموز-يوليو- (1165). وهو ينتمي إلى عائلة لها ارتباط دموي بأقدم القبائل العربية التي وفدت إلى إسبانيا، وهي قبيلة «طيء» التي منها حاتم الطائي أشهر كرماء العرب. وكانت أسرة ابن عربي تحتل مكانة بارزة سواء في «الجيش»، أو في «الإدارة».من ذلك مثلاً أن والده كان في خدمة محمد بن سعيد ابن مدردنيش حاكم مرسية. وعندما سقطت هذه المدينة في أيدي الموحدين، انتقلت عائلة ابن عربي إلى إشبيلية، وكان ذلك عام (1172). وفي هذه المدينة توفرت لمن سيكون شيخ المتصوفة في ما بعد «حياة مريحة هيّنة»، وفيها عاش أولى تجاربه الروحية.
وقبل أن يبلغ سنّ العشرين، أخذ ابن عربي يطوف في مختلف مدن الأندلس .وفي مدينة قرطبة التقى بابن رشد، القاضي والفيلسوف الذي كان قد اشتهر آنذاك بشروحاته لفلسفة أرسطو. وراوياً تفاصيل ذلك اللقاء، كتب ابن عربي في «الفتوحات المكيّة» يقول: «لقد دخلت يوماً بقرطبة على قاضيها أبي الوليد بن رشد، وكان يرغب في لقائي لما سمع، وفتحه الله به عليّ في خلوتي فكان يظهر التعجب ممّا سمع، فبعثني والدي إليه في حاجة قصداً منه حتى يجتمع بي، فإنه كان من أصدقائه وأنا صبيّ ما بقل وجهي ولا طرّ شاربي. فعندما دخلت عليه قام من مكانه إلي محبّة وإعظاماً فعانقني وقال لي: نعم، قلت له: نعم! فزاد فرحه بي لفهمي عنه ثم استشعرت بما أفرحه من ذلك، فقلت له، فانقبض وتغير لونه وشكّ في ما عنده، وقال: كيف وجدتم الأمر في الكشف والفيض الإلهي، هل هو ما أعطاه لنا النظر؟ قلت له: نعم ولا.وبين نعم ولا تطير الأرواح من موادها والأعناق من أجسادها. فاصفر لونه وأخذه الإفكل (الرّعدة والخوف)، وقعد يحوقل وعرف ما أشرت إليه، وهو عين هذه المسألة التي ذكرها هذا القطب الإمام، أعني مداوي الكلوم».
وكان ابن عربي بمدينة مراكش عام (1198) لمّا توفي ابن رشد فحضر موكب نقل جثمانه إلى قرطبة ،مسقط رأسه.وعندما وضع التابوت الذي فيه جسد شارح أرسطو على ظهر بغلة، التفت أبو الحكيم إلى الحاضرين وقال: «ألا تنظرون إلى ما يعادل الإمام ابن رشد في مركوبه، هذا الإمام وهذه أعماله». فما كان من ابن عربي إلاّ أن كتب تلك اللحظة ليجعلها تذكرة، وعليها علّق قائلاً: «هذا الإمام وهذه أعماله.. يا ليت شعري هل أتت آماله».
وفي السنة نفسها التي توفي فيها ابن رشد، رأى ابن عربي رؤيا سوف تعجل بسفره إلى بلاد المشرق فلن يعود منها أبداً. فقد شاهد العرش الإلهي قائماً على قوائم من نور، يحلق فوقه طائر أمر ابن عربي بمغادرة وطنه، والرحلة إلى الشرق. وخلال الحج إلى مكة، وكان ذلك عام (1201)، أمر محي الدين بن عربي بالشروع في تأليف «الفتوحات المكية». وفي الأثناء عشق فتاة صوفية فارسية كانت على درجة كبيرة من الإيمان والجمال. ولعله كتب ديوانه الشعريّ اليتيم «ترجمان الأشواق» من وحي القصة التي عاشها مع تلك الحسناء التي تدعى «عين الشمس نظام». وفي هذا الديوان الذي يعتبر مرجعاً أساسيّاً لفهم العالم الروحي لابن عربي، نقرأ:
أحبّك حبين: حبّ الهوى
وحبّاً لأنك أهل لذاكا
فأمّا الذي هو حبّ الهوى
فشغلي بذكرك عمّن سواك
وأمّا الذي أنت أهل له
فكشفك لي الحجب حتى أراكا
وقد هاجم عدد كبير من القفهاء والشيوخ ديوان «ترجمان الأشواق» معتبرين صاحبه «خارجاً عن الدين»، وعن «حظيرة الإسلام». وهذا ما كانوا قد فعلوه مع الحلاج الذي صلب في بغداد، ومع السهر وردي الذي قتل بتهمة الردّة والكفر. وفي بلاد الشرق، كانت حياة ابن عربي سفراً دائماً. فقد زار القاهرة حيث واجه مخاطر أجبرته على اللجوء إلى مكة ليحتمي فيها من مكائد من كانوا يرغبون في قتله وتكفيره. كما رحل إلى الأناضول بتركيا. وفي مدينة قونية التي قضى فيها المتصوف الكبير الآخر جلال الدين الرومي الشطر الأكبر من حياته، التقى ابن عربي بالشيخ صدر الدين القوني الذي كان قد تعرف عليه في مكة، والذي أصبح من تلامذته المشهورين، ومن أعظم شرّاح مؤلفاته الكثيرة المتّسمة بالتعقيد والغموض. ومن قونية، انتقل إلى بلاد أرمينيا، ثم توجه إلى «وادي الفراتين»، وبغداد وفيها التقى بالشيخ شهاب الدين السهروردي الملقب بـ «شيخ الإشراق». وفي حلب استقبله الملك الظاهر بحفاوة بالغة غير أنه لم يتمكن من منعه من قتل السهروردي.
وكان الشيخ محي الدين بن عربي قد أصبح يتمتع بشهرة واسعة لما قرر الاستقرار بمدينة دمشق. وكان ذلك عام (1223). وهناك دأب على استقبال عشاق الحكمة وأتباع التصوف والمريدين الذين كانوا مفتونين بأفكاره وأطروحاته. وفي تلك السنوات «الدمشقية» التي أرادها سنوات هدوء وسلام، أتّم الشيخ محي الدين بن عربي «الفتوحات المكية» التي ضمّنها تجاربه الروحية في جميع مراحل حياته. وظل مقيماً في دمشق إلى أن وافته المنية في عام (1240). وفيها دفن. وقد نجح الراحل نصر حامد أبو زيد في تقديم صورة مفصلة ومستفيضة عن حياة وأعمال شيخ المتصوفة الأكبر محي الدين بن عربي مثبتاً بذلك أنه واحد من المفكرين العرب القلائل الذين حاولوا الجمع بين قطبي التفكير الإسلامي المتمثلين في العقلانية والروحانية، أي بين ابن رشد وابن عربي.
___________
*مجلة دبي الثقافية
مرتبط
إقرأ أيضاً
الفكرد. محمد عبد المطلب( ثقافات )هذه المفردة تعني (إعمال العقل) والتأمُّل والتدبُّر الواعي للمعلوم للوصول…
-
التجريد في الفن الإسلاميد.حورية الظل( ثقافات ) يُعد التجريد من مظاهر التجديد والمعاصرة في الفنون الغربية، لكنه يُعتبر أيضا…
في ليبيا*سميرة البوزيدي( ثقافات )في السادسة صباحا كل يوماستيقظ قلقةمن حلم تشطره القذائف والصواريخاحوم مثل روح…
في الصّمت*عبد السلام بنعبدالعاليلا يدعونا شيوران إلى الخلود إلى الصّمت وإنما إلى محاكاته، أي إلى بلوغ…