صحيفة ‘النهار’ تدير ظهرها للثقافة


في كلمته الختامية التي وجهها الشاعر عقل العويط القائم بمهام تحرير ملحق جريدة النهار الثقافي قبيل توقف الملحق عن الصدور بسبب الأزمة المالية التي تعرضت إليها الجريدة في الفترة الأخيرة، أكد العويط على دور الملحق الذي امتد طوال واحد وخمسين سنة في خلق إرث كبير من الثقافة الرافضة لكل ما يحد من فضاءات الحرية والخلاقة لكل ما هو جديد ومحفز في المسيرة الثقافية العربية، وقال في كلمته التي أعلن فيها توقف عمله في الملحق وتوقف الملحق عن الصدور “طوال واحدٍ وخمسين عاماً من الاختبارات، صنع “الملحق” إرثاً عظيماً في ثقافة الرفض والخلق والحرية، موسّعاً فضاءات الحداثة الأدبية والفنية والإنسانوية، ومحفّزاً لها. إرثه هذا، بدأ طليعياً، خلاّقاً، حرّاً، رافضاً، شجاعاً، وعالي الرأس، واستمرّ يولد مختلفاً ومتجدداً، ويجب أن ينتهي هكذا”.

وقد أدت الملاحق الثقافية في الصحف العربية وبما فيها جريدة النهار دورا رائدا لا يستهان به في القرن الماضي في تنشيط الحركة الثقافية، سواء من خلال التعريف الدائم والمستمر بأهم الإصدارات وأحدثها، العربية منها والأجنبية، في مختلف المجالات المعرفية، أو من خلال نشر الدراسات والمتابعات النقدية المواكبة لها، وما إلى ذلك من إنجازات ثقافية متنوعة إبداعية منها وبحثية.
وقد مثل ملحق جريدة النهار الثقافي أحد أهم المراجع الثقافية وأكبرها منذ تأسيسه عام 1964 وكان مقياسا لمدى تأثير الثقافة كداعمة للحياة الاجتماعية وظاهرة إنسانية، وعملية متجددة ومبتدعة تساير كل المتغيرات السياسية والاقتصادية والقيمية التي تمر في حياة الأفراد والمجتمعات، وسخر على مدار سني صدوره المادة الثقافية والإبداعية لإحداث ردات فعل فكرية وإشكالية، إذ الثقافة هي القدرة الإنسانية الأبرز على اكتشاف المواهب والطاقات البشرية.
ونحن أحوج في هذا الوقت الذي تحيط به الكوابيس من كل جهة ويشتعل العالم بأتون التطرف والإرهاب ويستعر بإشكاليات سياسية مضطربة إلى دور الثقافة، الرافعة الحقيقية للتغيير، وإعطائها الفرصة الحقيقية والجادة لإحداث هذه التغييرات، لا أن نغلق أبوابها ونوافذها ونستغني عن منابرها التي أثبتت وظيفتها في الحراك الثقافي والسياسي معا، فكل إنجاز تنجزه هذه الملاحق سواء كان قصيدة أو قصة أو دراسة نقدية أو متابعة ثقافية، يجير لصالح الثقافة ودورها الشرعي في مواجهة الصعوبات الحياتية المختلفة.
لقد امتلكت الملاحق الثقافية بحكم وظيفتها التي تدعى الكلمة والفكرة، من المعرفة ما أهلتها للقيام بدور شمولي وعكست الحالة الثقافية كشاهد على العصر الذي نعيشه، فكانت المادة الإبداعية والثقافية التي نشرت في أغلب الملاحق الثقافية هي الانعكاس والمحاكاة الحقيقية للاحداث السياسية والاجتماعية والتحولات في حياة الافراد، فقد وثقت الحدث برؤية فنية وبعين تحاكي ولا تنسخ، إذا فهي القادرة على التصور والاستشراف ضمن مهمة لا تقل تأثيرا عن صناعة القرارات الكبرى، فالفكرة أيضا سلاح قوي بل ويعد أخطر من رصاصة، فكيف يتم الاستغناء عن معرض هذه الأفكار ويتم إيقاف وتحجيم دور الكثير من منابر الثقافة وملاحقها.
والخطوة التي اتخذتها جريدة النهار بإيقاف ملحقها الثقافي بشكل علني ورسمي، اتخذته الكثير من الصحف بشكل غير علني ونهائي، إذ قلصت عدد صفحات ملاحقها الثقافية واستغنت عن كثير من كتابها، وطال التهميش والتقليص محتوى المادة الثقافية المنشورة فاقتصرت المادة الثقافة عاى متابعات سطحية ومواد إبداعية يتم نشرها إلكترونيا على مواقع التواصل الاجتماعي أولا، ثم تنشر في الملاحق مثل لإشغال الفراغ والبياض ليس إلا.
وفي إعلان عقل العويط عن توقف ملحق النهار الثقافي عن الصدور وختام عمله فيه ما يكفي لإحداث غصة عميقة لإغلاق منبر ثقافي كان يقف سنوات طويلة في وجه ثقافة اليأس والإحباط وثقافة القتل والتدمير بصوته العالي وكلمته المضيئة، يقول العويط في كلمته الوداعية عن الامل الذي لا يزال قائما في وجه الأمية الثقافية ” الآن، إذ تصل هذه التجربة الرائعة إلى خواتيمها، ولأن لـ”الملحق” هذا، أقداره وأعماره وخواتيمه، فإنني أعلن مشقة الاستمرار، واختتام عملي فيه. ومثلما كنتُ أميناً على البدايات، وعلى المراحل، ها أنا أمينٌ في هذا العدد الأخير، على شهامة النهايات، وكبريائها، سائلاً كتّاب “الملحق” وقرّاءه و”مواطنيه” على السواء، أن يروا في هذه الخاتمة عنوان ضوءٍ لكفاحاتٍ ثقافية وإنسانوية متواصلة، بأشكالٍ وأساليب وظروف مختلفة، ترفض حضارة اليأس والقتل والظلامية والجثث، وتأبى ثقافة الأمر الواقع والانزلاق إلى السهولة والتسطيح والأمية، شاهرةً ولاءها الدائم للغة الأمل والخلق والتمرد والسؤال والحبّ والحرية”.
_______
*ميدل إيست أونلاين

شاهد أيضاً

أبورياش: المثقف معني بكل شيء في وطنه وعليه إشعال المزيد من الشموع لإنارة الطريق

الأديب موسى أبو رياش: المثقف معني بكل شيء في وطنه وعليه إشعال المزيد من الشموع …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *