‘روح’ رؤية عميقة لفن محترم تعيد الهيبة إلى المسرح المصري


سارة محمد



ترصد مسرحية “روح” المصرية المأخوذة عن رواية “الزهرة والتاج” للكاتب الإنكليزي ج. ب. برستلي قصص مجموعة من الأشخاص في أحد الملاهي الليلية، حيث يذهبون بحثا عن نسيان همومهم أو طلبا للتغييب المؤقت عنها، الكل يحكي عن أوجاعه التي تدفعه إلى تمني الخلاص من الحياة، فهناك السباك ستون الذي يجلس متصفحا أخبار بلده التي لا تخرج عن الحوادث والأزمات المالية، وهو يعيش وحيدا لا يسأل عنه أولاده، تقابله في المقعد الموازي المطربة ريد التي لا تجد شيئا في الحياة يجعلها تشعر بالبهجة، حتى أنها تؤكد أن الأمر لو كان بيديها لتخلصت من حياتها إلى الأبد.
ما بين انزعاج ستون ورغبة ريد في الأنس، ينشأ صراع يمكن أن يحمل عنوان “صراع الاحتياجات”، فالرجل الذي اعتاد على وحدته وعزلته، لا يريد بجواره امرأة تحاول بشكل مستميت أن تثيره للحديث، باحثة عن مخرج لها من الحياة التي تعيشها بمفردها وسط آلام المعدة التي تداهمها بين الحين والحين.
في المقعد المجاور، يجلس شاب وفتاة حديثي الزواج في مقتبل حياتهما؛ يتحدث الشاب عن الحياة بنظرة بائسة تجعله يرفض فكرة الإنجاب حتى لا يأتي بأطفال يعيشون في شقاء وبؤس مثله، وهي نظرة واقعية أيضا لحال كثير من الشباب في المجتمعات العربية الذين يعانون من تخبط اقتصادي يجعلهم يرجئون الكثير من أحلامهم وأمانيهم.
أما العجوز التي لا تستطيع السير دون مساعدة من عصاها فتخطو بها مترنحة، فلم تكن أفضل حالا؛ فقد فقدت زوجين وثلاثة أبناء، ورغم أنها ذهبت إلى الملهى بحثا عن البهجة والسعادة، لكنها مع الأسف تتشاجر هي الأخرى مع هذا وذاك.
رغم القتامة البالغة التي يجسدها العرض على ألسنة أبطاله، تظل هناك بارقة أمل ممثلة في هاري الرجل الذي يدخل الملهى مشرقا باعثا التفاؤل لكل الحاضرين؛ يذهب معبرا عن إعجابه بجمال الزوجة الجديدة، ويداعب العجوز تارة ويجلبها للرقص معه، كذلك المطربة الحزينة ويدعو الجميع إلى البهجة رغم حزنه على رحيل صديقه، والآلام التي يعاني منها بسبب إصابته بثقب في قلبه المرح.
موت وحياة
ذروة الدراما في العرض جاءت مع ظهور شخصية “الروح” أو “ملك الموت”، الذي يطلب من الحاضرين اختيار واحد منهم ليقبض روحه، فتتغير حالة كلّ واحد من الأشخاص من تمني الموت إلى الصراع على البقاء، ويتسابق كل منهم في ترشيح غيره، مؤكدا أنه هو من يستحق الموت وحده مثل العجوز بسبب تقدم عمرها، أو السباك الناقم على حياته، إلى آخره…
تعود القتامة إلى أجواء المسرح مجددا بعد أن يختار “ملك الموت” هاري ليقبض روحه رغم أنه أكثر الموجودين بهجة وإقبالا على الحياة، وكأن الموت لا يختار سوى المقبلين على الحياة ويمهل الفرصة لآخرين يتمنون الخلاص منها حتى يعودوا إلى صوابهم، ويكتشفوا مناطق جديدة تستدعي ألاّ يضيّعوا أوقاتهم في الأوجاع والشكوى.
وأبرز ما في العرض روحه التي تناسب الأجواء في مصر أو أيّ دولة عربية أخرى، وهو أمر يحسب للكاتب ياسر أبوالعينين الذي صاغ الرواية مسرحيا، كذلك المخرج باسم قناوي الذي كان ذكيا في اختيار نص درامي يحمل الكثير من ملامح حالة التخبط التي يعيشها المجتمع المصري والعربي في السنوات الأخيرة، وهو تميّز استحق معه المخرج الفوز بجائزة مهرجان المسرح القومي المصري جنبا إلى جنب مع فوز العرض بجائزتي أفضل موسيقى وتمثيل.
تميز المخرج في الانتقال الدرامي بين مختلف المشاعر الإنسانية في “اللا زمن” من بهجة إلى يأس مرورا بالأمل والخوف والرجاء، ما جعل العرض رسالة تثير دوافع الإنسان ورغباته وتعيد رسم نظرته للحياة، وأجبرت أغلب من شاهد العرض على البكاء من فرط التأثر بالمشاعر المتباينة.
تألق جماعي
“روح” ربما يكون أكثر العروض المسرحية التي قدمها مسرح الدولة في موسمه الصيفي، تكتمل فيه العديد من العناصر المسرحية الجادة والمميزة، بداية من مقاعد الجلوس التي أعطت الإيحاء بالمسرح التفاعلي بين الممثلين والجمهور، والديكور البسيط المعبر عن الحدث الذي وضعه المهندس محمد جابر، فلا توجد كتل هندسية أو مناظر زائدة تأخذ من مساحة حركة الفنانين وتشوّه الصورة البصرية في بعض الأحيان كما في غيرها من المسرحيات.
أتى أداء الممثلين في المسرحية كلّ مكمل للآخر؛ بطلة العرض الفنانة فاطمة محمد علي التي جسدت دور ريد المطربة البائسة، توحدت مع شخصيتها إلى الدرجة التي جعلتها مع نهاية أحداث العرض تبكي بحالة هيستيرية، فلا يشعر المشاهد أنها مجرد ممثلة تؤدّي دورا، وهو ما ينطبق بالمثل على ياسر عزت الذي قدم دور السباك بحركته السريعة بين اللحظة والأخرى، ووجهه الذي أحسن استخدامه في تعبيراته عن لحظات الضيق والزهد تارة، والخوف من الذهاب إلى الموت تارة أخرى.
وقدمت الفنانة لبنى ونس دور العجوز، وقد أبدت تلاحما كبيرا مع دورها إلى درجة أن أشعرت المتفرج بأنها عجوز عرجاء حقيقة، حتى أثناء مداعبة الشاب هاري لها كانت تنتفض بجسدها بحركة صادقة غير مصطنعة، أما أداء “ملك الموت” الذي قدمه الشاب أحمد الرافعي ونال عنه جائزة من المهرجان القومي للمسرح المصري، فيبشر بمستقبل واعد لفنان واع، تشعر وتتأثر معه في لحظة مواجهته للأحياء وحديثه معهم.
اتسمت المسرحية بالحفاظ على هوية النص باللغة العربية وعدم البحث عن النكات التي تفسد عمق الرسالة التي يقدمها، حيث كانا من أهم مميزات العمل، خصوصا أنه مترجم، وفقدان مثل هذا الأمر كان سيؤثر على كثير من تفاصيله الهامة.
________
*العرب

شاهد أيضاً

العلاقة بين الشخصية الحقيقية والروائية في مسلسل التغريبة الفلسطينية

(ثقافات) “طربوش أبو عزمي العلي”:   العلاقة بين الشخصية الحقيقية والروائية في مسلسل التغريبة الفلسطينية زياد …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *