*فاروق يوسف
“لئلا تسقط”. غالبا ما كنت أسمع تلك الجملة جوابا عن سؤال كنت أوجهه إلى الرسامين الأصدقاء. كان ذلك السؤال يتعلق بمساحة لونية أو خط أو ضربة فرشاة أجدها تقع خارج إنشاء اللوحة. “لمَ فعلت ذلك؟”، الخوف من سقوط اللوحة المجازي، كان يدفع بهم إلى محاولة التزام قانون التوازن. وهو قانون كلاسيكي لم يفارقه فنانو الحداثة في النصف الاول من القرن العشرين، بغض النظر عن أساليبهم الفنية المختلفة.
السوريالي ماكس أرنست والتعبيري إدوارد مونخ والتكعيبي جورج براك والتجريدي الهندسي بيت موندريان والتجريدي التعبيري فاسيلي كاندينسكي ورائد الإيهام البصري فكتور فازريلي، كانوا ينفقون الأجل من أوقاتهم في سبيل انجاز تلك المعادلة الرياضية. أليست الموسيقى نوعا من الرياضيات؟
كل الفنون تسعى إلى أن تكون موسيقى. أنصت بول كلي إلى زميله كاندينسكي وهو قائل تلك الشذرة المباركة، فكان لا يطيق فراقا عن الموسيقى التي يجيد عزفها وهو يرسم. كل لوحات كلي كانت مفرداتها تتسلق سلّما موسيقيا وهميا. لا يحتاج الرسّام إلى أن يكون ممارسا للموسيقى ليشعر بالموسيقى وهي تنبعث من داخله حين يضع صبغة إلى جوار صبغة أخرى، أو حين يحاول أن يفكك أسرار خط من طريق الاستعانة بخط آخر، لا يزال متشبثا ببراءته وحسن سيرته، او حين يضيف شكلا لم تكن الأشكال في الواقع تقبل أن تستضيفه عضوا في محفلها السري. يفعل الفنان أثناء عملية الرسم ما لا يجرؤ على فعله في الحياة. ستضفي الحياة شيئا من جنونها على تفاصيلها الناقصة من أجل أن تبدو مكتملة. فالحب والجوع والبكاء والصداقة والسفر والوظيفة والفراق والتمرد والحرمان والتوق إلى الحرية والشعور بالقرف، كلها أفعال ناقصة، لن تكتمل إلا من طريق الايقاع، وهو لازمة عيش خيالي. أن تكون موجودا هناك، فذلك هو خيار العدم الذي يمكن من خلاله أن نصدّق أنك كنت موجودا.
كان الرسّامون الاصدقاء يخشون السقوط في العدم، لذلك كانوا يحافظون على مشيتهم الرشيقة على الصراط المستقيم؛ ذلك الحبل الوهمي الذي يصل إلى الجنة. إنه فعل صعب لن يجيد القيام به سوى المؤمنين. أولئك البشر الذين خسروا كل شيء في الدنيا من أجل تلك اللحظة المتخيلة التي قد لا تقع. “لئلا تسقط”، يمكن استبدالها بـ”لئلا أسقط”. النار من تحت ولن يكون هناك خيار سوى استجابة شروط لحظة العماء تلك. تلك اللحظة يمر بها المتلقي أيضا وهو يسعى إلى أن يكون رساما افتراضيا.
قبل أيام سألني صديقي الشاعر: لو أن يابانيا دخل إلى قاعة موازييك بلندن ورأى لوحات السوري مروان قصاب باشي، أتعتقد أنه سيحبها؟ الفكرة ساذجة، غير أنها أعجبتني، ذلك لأنها تعيدنا إلى نقطة الصفر. إن كان الياباني لا يعرف شيئا عن مروان، وهذا ما أتوقعه، فينبغي أن تكون لديه بعض المعرفة بتاريخ الرسم ومدارسه وأساليبه وتقنياته. وإن كان خالي الوفاض من ذلك كلّه، فلا بد أن تكون عينه مدربة على رؤية الأعمال الفنية. أما إذا لم يكن كذلك، فإن حكمه لن يلزم أحدا شيئاً. ما يجب أن لا ننساه، أن الفن خبرة. خبرة الفن أن نعيشه لا أن نتفرج عليه. والعيش في الفن يفرض علينا التحلي بأخلاقه، وهي أخلاق حميدة تضعها الرياضيات على سلّم الموسيقى.
قوانين الرسم وهذياناته
سيكون الفرنسي بول سيزان (1839 – 1906) بعد موته أباً للحداثة الفنية بسبب اعتماده النظام الهندسي في بناء لوحاته. لم يكلف سيزان نفسه كثيرا من العناء وهو يرسم تفاحاته. بالتأكيد كان لا يرغب في منافسة فناني عصر الباروك (القرن السابع عشر) في موضوعة الحياة الصامتة (الجامدة). التفاحات التي لو رسمها على غرار ما فعله فنانون ذلك العصر، لن تضيف شيئا إلى الفن. هل كان يهمه أن يطلع المشاهد على حقيقة أن تفاحاته ما كانت موجودة لتؤكل بل لتُرسم، لتكون مرسومة؟ النظام الذي أتبعه سيزان في رسم تفاحاته هو النظام نفسه الذي أتبعه في رسم مناظره الطبيعية، الجبلية منها بالذات.
تبدو أعمال سيزان قاسية في تركيبها ومفرطة في عقلانيتها. تكاد المعادلات الرياضية تقفز من بين ثنايا لوحاته. لم يكن رساما غنائيا بل هو الرسام المثالي في موقفه المضاد للغنائية السائبة التي كانت نهجا انطباعيا. لذلك كانت التكعيبية (1907 – 1914 سنوات تألقها) وهي اولى مدارس الحداثة الفنية في القرن العشرين، قد أجرت تطبيقات عملية لمقترحاته التي سبق له أن طبّقها بنفسه بصرامة. لقد ألغى سيزان عصرا من الجمال ليبدأ عصر جمال جديداً. التكعيبيون (جورج براك، بابلو بيكاسو، فرنان ليجيه، خوان غريس) كانوا ورثة أوفياء.
بيكاسو هو الوحيد الذي فلت من القدر السيزاني. ولأن ابن ملقة هو حالة استثنائية في تاريخ الفن عبر العصور، فإن تخليه عن سيزان وما خلفه من أثر، ظهر في التكعيبية، بدا أمرا طبيعيا، غير أنه ظل في كل مراحل سيرته الاسلوبية ملتزما القانون الرياضي الذي اقترحه سيزان.
من الطبيعي أن يكون بيكاسو (1881 – 1973) أكثر حداثة من سيزان، غير أنه ظل حتى نهاية حياته مقيما في المختبر السيزاني. لم يكن من اليسير أن تُرسَم تفاحات سيزان في نهاية القرن التاسع عشر بالطريقة التي رسمت بها. ربما كان بيكاسو يشعر بالغيظ لأن أحدا سبقه إلى ذلك، حتى وإن كان ذلك الشخص هو سيزان بعظمته الاستثنائية. لقد رسم سيزان تفاحاته وانتهى الامر. لكن سيزان نفسه لو عاد إلى الحياة ورأى ما رسمه بيكاسو لشعر بالرضا. لقد وجدت نظريته مَن ينفتح بها على آفاق تطبيقية لم تكن ممكنة إلا من خلال خيال فذ. بيكاسو كان هو صاحب ذلك الخيال الفذ.
بالنسبة إلى عدد كبير من الرسامين فإن الهندسة السيزانية لم تكن مجرد دوائر ومربعات ومكعبات، بل كانت قانونا لبناء اللوحة، تذكّر صرامته بصرامة تلك القوانين التي اكتشفها ليوناردو دافنتشي في عصر النهضة. وهذا ما لم يفهمه حتى اللحظة رسامون يعتقدون أن العين وحدها يمكن تدارك الاخطاء التي قد ترتكبها اليد. يقول الخبراء في هذا الشأن إنه يمكن التعويل على العين الخبيرة. وهو أمر يكاد أن يكون صحيحا لو كان المقصود بخبرة العين دربتها على أن ترى العالم قائما على اساس نظام هندسي لا يقبل الخطأ. ولكن كل ذلك النظام يتحكم بإيقاع الرسم ولا يمسك بحقيقته التي غالبا ما تكون هذيانية نافرة، فهل هناك تعارض؟
بناء اللوحة ليس هو اللوحة. هناك قوانين في العمارة يتعلمها المعماريون ويلتزمونها بغض النظر عن نزعاتهم الاسلوبية وتوجهاتهم الفكرية. هي قوانين رياضية تحفظ لبنية العمل الفني تماسكها الداخلي، الذي يحفظ لذلك العمل قدرته على أن يظل قائما. قوانين ذلك التماسك، لا يمكن التعرف إليها الهاميا. فهي جزء من الدرس الذي يجب أن يتعلمه الرسام قبل أن يقدم على الرسم بالرغم من أن تعلمها لن يخلق رسّاما. سيكون في انتظارنا الكثير من العته إن اعتقدنا أن حفظ قوانين الصورة يمكنه أن يكون سببا لخلق الصورة. يمكن الرسام أن يقاوم الصورة التي ينتجها، وهي صورة لن تتعرض للاهتزاز ما دامت قادرة على الامتثال لقوانينها.
ما الذي فعله العرب وهم يرسمون؟
ليس للرسّام العربي المعاصر سوى أن يستسلم لسذاجة نظرته إلى الرسم. كان بيكاسو في سن الحادية عشرة يرسم كما لو أنه رافاييل، فهل كان لدينا في تاريخنا الفني رافاييل عربي واحد من ذلك النوع الذي كانه بيكاسو؟ لو التفتنا إلى الوراء لما رأينا إلا محاولات جادة، تمتزج من خلالها الموهبة بالكدح اليومي. وهي محاولات تستحق أن تُبارَك، لولا أننا ارتكبنا الخطأ حين أضفينا عليها شيئا من القداسة التي تمنع النظر إليها نقديا بطريقة تمكننا من وضعها في مكانها الحقيقي. هذا ما جعل تلك المحاولات تتحجر. كل تجارب رسامينا المكرسين هي قوالب متحجرة لا تصلح للدرس أو النقد أو اعادة التعريف. هناك فوضى في الدرس الاكاديمي، هي سبب ما عشناه وما نعيشه اليوم من تدهور على مستوى المفاهيم الفنية المتداولة. كل هذه الرداءة التي تعج بها صالاتنا الفنية، هي وليدة تاريخ من سوء الفهم. لم يخبرنا أحد يوماً ما، أن علينا أن نبدأ فنيا ونقديا من نقطة الصفر. كان اكرم شكري، وهو رسام عراقي رائد عاد من باريس إلى بغداد منتصف ثلاثينات القرن العشرين، يرسم بأسلوب الاميركي جاكسون بولوك، الذي لا يمت بصلة إلى الرسم كما يجب أن نتعلمه ونتعلم تذوقه. كان الرجل فاتحا حداثويا، غير أن فتوحاته تظل أسيرة أسلوبه الشخصي الذي كان منتحلا. تقليد بولوك في ما فعله، يكشف عن سذاجة ورثاثة في فهم اصول الفن. هنا أقف أمام المصطلح الذي خرب غيابه حياتنا الفنية. “اصول الفن”، هو ذلك المصطلح.
ما صار بديهيا بالنسبة إلينا هو الاستثناء، أما القاعدة فقد استبعدت تماما. وهذا ما جعلنا نهتم برسامين استثنائيين من نوع شفيق عبود ورافع الناصري وفريد بلكاهية وضياء العزاوي ومروان قصاب باشي وبول غيراغوسيان وشاكر حسن آل سعيد والغرباوي ومحمود سعيد وفاتح المدرس وسواهم من الرسامين الفاتحين في الوقت الذي تم فيه تغييب ذكر الرسامين الذين تشكل تجاربهم قاعدة ارتباط بأصول الرسم، كما يجب أن يكون وكما يجب أن نتعلم تذوقه والتماهي مع مدركاته الحسية. الرسم هو حياته المباشرة ليس فقط ما ينتج منه في المختبرات.
لقد جرى التعتيم على موضوعات، كان الرسم من خلالها يختبر سحر قوة تأثيره، وقبلها خبرته في الاداء، وهو ينقب عن ضالته الجمالية. المناظر الطبيعية والحياة الصامتة وشوارع المدينة ومقاهيها وروادها والحياة الشخصية بكل تلاقياتها المضطربة. لقد نسينا الحياة بكل أبهة انفعالها من أجل أن يسود الرسم المقبل من عالم افتراضي بارد. لهذا انقطعت علاقة الرسم في العالم العربي بالحياة كما نعيشها لا كما نتوهمها. كل المحاولات الفنية التي أسرفنا في مديحها كانت تجارب مختبرية، لو أنها تعرضت للشمس لما بقي شيء منها. لقد اختار الرسامون العرب أن يكونوا نخبويين على طريقتهم الخاصة، وهي الطريقة التي نأت بهم عن الرسم، باعتباره نوعا من الحياة المجاورة. هناك استثناءات مجيدة يمكنها أن ترخي طرف الحبل المشدود. اللبناني أمين الباشا على سبيل المثل هو واحد من أهم تلك الاستثناءات. أخلص الباشا لمدينته بيروت في أن يكون رسامها، ابنها الذي ينتج صورها التي لم تنتجها الطبيعة. سبقه في ذلك الاخوان وانلي (سيف وأدهم) حين أحاطا مدينتهما الاسكندرية بحنانهما غير المسبوق. في تجارب من هذا النوع يمتزج فيها الحس الرياضي بالعاطفة ليشقّا طريقا في اتجاه بناء عالم مثالي، يكون الرسم بمثابة اشتقاقه العملي الذي يستخرج صوره من العدم.
كان ذلك جزءا من الماضي. الجزء الأكبر من المشهد الفني العربي لا يمكنه ان ينجح في أي اختبار تقني أو معرفي. هناك سعادة بالجهل، هي ما تضفي طابعا من الجهامة على المشهد الفني كله، بغض النظر عن وجود تجارب فنية حقيقية، هنا وهناك. سيكون علينا دائما أن نشهر سؤالا من نوع “ما الرسم؟”، أمام الكثير من رسامي اليوم لنتأكد أن لا صلة تجمعهم بالرسم. جل ما كنت أخشاه قد وقع فعلا. لقد احتل فنانو الفولكلور موقع الصدارة في التعبير عن الحداثة بذريعة الدفاع عن الهوية. وهذا ما لا نُحسد عليه في كل الأحوال.
______
*المصدر: النهار