فيلم “أغنية الغروب” يفرط في القسوة والكآبة



أوين غلايبرمان


تُظهر العديد من الأفلام التي تدور أحداثها في بريطانيا في أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين هذا البلد على أنه بقعة ذات طبيعة ريفية يشكل الوصول إليها مهربا لكثيرين.

لكن هذا الأمر لا ينطبق على فيلم “صن سيت سونغ” (أغنية الغروب) للمخرج تيرانس دافيز، إذ أن بريطانيا في هذا العمل ربما تبدو مكفهرة ومتجهمة بشكل مفرط، كما يقول الناقد أوين غلايبرمان.
يبدو فيلم “أغنية الغروب” للكاتب والمخرج البريطاني دافيز عملا ملحميا ذا طابعٍ صادم وجليل ومهيب في الوقت نفسه.
والفيلم مفعمٌ أيضا بنوعين من القسوة. أولهما ذو طبيعة بشرية، ويتعلق بالدمار الذي يمكن أن يُلحقه البشر ببعضهم البعض؛ سواء كان ذلك في صورة عقاب يُنْزلُه أب تقي وورع – في اسكتلندا عام 1910- بإبنه عبر ضربه جزاءً له على استخدام الذات الإلهية في عبارات اللعن والسباب، أو في شكل مجزرة ممنهجة تقع على نطاق واسع؛ وهي الحرب العالمية الأولى التي اندلعت بعد ذلك بسنوات.
أما النوع الثاني من القسوة فهو ميتافيزيقي الطابع، ويتمثل في ذلك الإحساس بأن الحياة – بحسب طبيعة تصميم الكون – قاسية وشاقة وعديمة الرحمة، وأن كل ما بوسعنا فعله لا يعدو الشعور بالامتنان حيال ما يواتينا خلالها من فواصل نادرة من الحظ الحسن.
وقد أعد دافيز هذا الفيلم للسينما عن رواية نُشرت عام 1932 للكاتب لويس غراسيك غيبون (وهي رواية تجعل ما نعتبره عادةً ملحمة خطّها الكاتب توماس هاردي يبدو ذا طابع مرح وخالٍ من الهموم).
وفي كتابته وإخراجه لهذا العمل، اتبع دافيز نمطا مدروسا للغاية يتوائم بدقة مع موضوع الفيلم: فالأحداث تدور في الريف الاسكتلندي، المُترّع بالقمح الوفير الذي يكسو الأرض كأمواج البحر، والحقول الخضراء التي تغطيها الطحالب، لكن هذه البقعة تكاد تكون خاوية في الوقت نفسه – ومن الناحية الروحية – من أي نسمة هواء.
وهكذا يبدو العمل، عبر الأسلوب الذي نفذه به كاتبه ومخرجه، مثل إثم أو خطيئة تَعلَقُ بك في البداية، ثم لا تلبث أن تطوقك وتغمرك في نهاية المطاف.
ورغم أن ثمة عوامل تتقاسمها تقليديا الأعمال التي تصوّر العذاب والبلاء الشديديّن، سواء أكان ذلك من خلال فيلم “12 عاما من العبودية” أو عبر عمل آخر كفيلم “لا رجعة فيه” للمخرج غاسبر نو؛ فإن “أغنية الغروب” يوحي وكأن مخرجه دافيز يُكرسه لإبراز ما يصطبغ به العالم من لامبالاة وعدم اكتراث. فالفيلم لا يتسم فقط بالصرامة والقسوة والمأساوية، ولكنه مفعم بالشر كذلك. كما أن دافيز تعمد ألا يجعل مشاهده تنعم بإضاءة كافية.
كآبة غامرة
بالنسبة لي، يظل أكثر عنصر يخلب لبي فيما يتعلق بأيٍ من أفلام دافيز هو ذاك الأداء المخيف المروع الذي قدمه الممثل بيت باسلثوايت، في تجسيده لدور أب ثمل مؤذٍ لأبنائه في إطار أحداث فيلم “أصوات بعيدة لا تزال حية” الذي أنُتج عام 1988. وفي “أغنية الغروب”؛ توجد مساحة لشخصية من هذا النوع، وحقيقةٍ على تلك الشاكلة كذلك.
ولكن في فيلمنا هذا؛ راودني إحساس بأن كبير عائلة غَثري، ذاك المزارع البسيط الذي يدخن غليونه بهدوء تام والذي يجسد دوره الممثل بيتر مولِن، لن يلبث أن يتضح أنه رجل متوحش بكل معنى الكلمة، وذلك بمجرد ظهور مولِن على الشاشة.
استعان المخرج تيرانس دافيز (يمينا) بالممثل الشاب كيفن غَثري (يسارا) ليلعب دورا في فيلم أغنية الغروب فهذا الأب لا يكتفي بضرب نجله بحزام جلدي، بل يحرص على أن يستخدم لذلك مشبكا (إبزيما) معدنيا أيضا. كما أن رغبته في معاشرة زوجته مرارا وتكرارا لجعلها تنجب أكبر عدد ممكن من الأطفال، غير عابئ بتوسلاتها له في هذا الشأن، قد تمثل أول نموذجٍ من نوعه في التاريخ السينمائي لاستخدام المعاشرة الجنسية وإجبار الزوجة على الحمل كمظهر من مظاهر السلوك السادي.
وبينما قدم باسلثوايت شخصية الأب الرهيب في “أصوات بعيدة لا تزال حية” على أنه رجل ذو روح معقدة يعصف بها الألم، فإن الشخصية التي جسّدها مولِن في “أغنية الغروب”، ذات تأثير موجع ومؤلم كـ”سِن” يُصيبُك بألم مبرح، ولا تتمنى سوى أن تراه وقد اقتُلِع من جذوره.
أما الشخصية المحورية في العمل، فهي كريس (التي تجسد شخصيتها الممثلة أغنيس ديِن)، وهي فتاة ممشوقة القوام يعكس جمالها الحزين قلبها المفعم بالأشواق. وبحسب أحداث الفيلم، تبدو كريس – وهي طالبة في إحدى المدارس – ذات شخصية متألقة ومشرقة ومطيعة في آن واحد، وكذلك مفعمة بالآمال والأحلام.
لكن عالمها الضيق من الأصل يزداد محدودية، عندما تبدأ في فقدان أفراد أسرتها، مثل أمها التي ترتبط وفاتها بذاك الأب ذي الطابع الشيطاني، حتى لو لم يكن هو السبب المباشر في الوفاة.
بعد ذلك، تلتقي هذه الفتاة شابا يُدعى إيوان (يجسد شخصيته الممثل كيفن غَثري)، وهو رجل دمث رقيق يقع في هواها. ولوهلة، يبدو شعاع خافت من النور وقد بزغ في أجواء الفيلم. ولكن، على غرار ما حدث عندما شاهدنا الأب يدخن غليونه بعمق وهدوء؛ فإننا نشعر من داخلنا بأن مشاهد الحب الوليد هذه ليست إلا تحضيرا من قبل دافيز لمشهد قتل قادم.
يجدر بيّ القول إن مبعث اعتراضي على فيلم “أغنية الغروب” يتمثل في أن الأسلوب الإخراجي الذي اتبعه دافيز لإبراز ما يمكن وصفه بالعظمة أو البهاء الشرير القاتم، جاء في نهاية المطاف متكلفا ومصطنعا، فلا طابع عفوي على الإطلاق تقريبا في إخراجه لهذا العمل.
ربما كان لهذا الأسلوب الإخراجي تأثيرٌ ما عندما قدم تيرانس دافيز فيلمه المستوحى من رواية “ذي هاوس أوف مًيرث” (بيت المرح) للكاتبة إديث وارتون. ولو أن الشخصية المحورية للرواية (لي لي بارت)، بدت نابضة بالحياة في العمل المكتوب أكثر مما كانت عليه في إطار الفيلم السينمائي.
فـ”أغنية الغروب” يصوّر الحياة الريفية في أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين على أنها ذات سمت أكثر رسمية مما كانت عليه في واقع الأمر.
ومع اقتراب الفيلم من نهايته، تنغلق الدائرة عندما يلوح شبح الحرب العالمية الأولى، التي يضطر إيوان للانضواء تحت لواء الجيوش المتحاربة فيها (لئلا يُوصم بالجبن )
وعلى أي حال؛ فإن المأساة – بطبيعتها – ربما تكون محتومة ولا مفر منها، ولكن عندما تكون يد القدر ثقيلة على هذه الشاكلة، فإن ذلك يعني ببساطة أن قدرا هائلا على نحو مفرط من الغم والحزن الشديديّن سيترافق مع الهلاك والويل والموت.
——-
بي بي سي

شاهد أيضاً

العلاقة بين الشخصية الحقيقية والروائية في مسلسل التغريبة الفلسطينية

(ثقافات) “طربوش أبو عزمي العلي”:   العلاقة بين الشخصية الحقيقية والروائية في مسلسل التغريبة الفلسطينية زياد …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *