«أنت قلت» رواية عن سيلفيا بلاث وتيد هيوز… لا تعطٍ قلبك كله


لمياء المقدم


بعد سنوات من الصمت والعزلة، وبعد أن مضى على موته أكثر من ١٧ عاماً، يقرر الشاعر الأنجليزي تيد هيوز، أن يخرج الى العالم أخيراً، برواية يسرد فيها تفاصيل علاقته بزوجته الشاعرة الأميركية سيلفيا بلاث، وظروف انتحارها. الرواية بعنوان «أنت قلت»، وهي السادسة في مسيرة الروائية الهولندية كوني بالمن (٥٩ سنة).

تتناول الرواية سيرة حياة أشهر زوجين شاعرين في الأدب الحديث، التي انتهت بوضع سيلفيا بلاث حداً لها بالانتحار في ١١ فبراير ١٩٦٣، وعزلة زوجها تيد هيوز. قرّر هيوز بعد موت زوجته عدم مواجهة التهم الموجهة له، بالمشاركة في قتلها، وبقي ملتزماً الصمت الى ما قبل وفاته بقليل، حين أصدر مجموعته الشهيرة: «رسائل أعياد الميلاد». بعد انتحارها، تحوّلت سيلفيا بلاث الي أيقونة، كتبت عنها مئات الدراسات، وألّفت حولها البحوث والقصص.
في روايتها «أنت قلت» تمنح الروائية الهولندية كوني بلمن صوتاً لهيوز ليقول ما لم يجرؤ أبداً على قوله، ما سكت عنه طوال هذه السنين. وهو الصمت الذي اعتبرته بلمن مشروعاً، في مقابلة تلفزيونية معها، على القناة الثانية الهولندية حين قالت: «أتفهّم صمته، كان أكبر من أن يدخل في تفاصيل الردّ على الاتهامات التي وجهت له، كان فوق ذلك بكثير».
تغيير إضاءة
«بالنسة إلى معظم الناس، لا وجود لنا إلا في الكتب، زوجتي وأنا. على مدى الخمسة والثلاثين عاماً الأخيرة تابعتُ بعجز ورعب كبيرين، كيف دُفنت حياتي وحياتها تحت أكوام من القصص الملفقة والشهادات المزورة، والشائعات، والأساطير والاستنتاجات، كيف استبدلت شخصيتانا الحقيقيتان جداً، المعقدتان جداً، بأبطال وكليشيهات وصور بسيطة وباهتة، صممت خصيصاً لإثارة أكبر قدر من القراء، حيث هي، القديسة الهشّة، وأنا الخائن الفظ، لقد صمت الى هذه اللحظة..». هكذا تبدأ بلمن في سرد قصة الشاعرين.
«»أنت قلت» ملء أدبي لثغرات حياة واقعية»، هكذا وصفتها صحيفة بارول الهولندية التي منحتها ٤ نجوم. وقالت الصحيفة إن أهم ما يميز هذه الرواية إنها «تضعك مباشرة أمام هيوز، دون تدخل من الكاتبة، الصوت الوحيد الذي تسمعه هو صوته، ولا وجود لظلال أخرى، بما في ذلك ظل الكاتبة». أما مجلة «إلسفير» الفكرية فكتبت: «رواية تسحبك حتى آخرك، تتحدث عن الحب الذي يصل الى حدّ الألم، عن امراة لم تعرف أن تعيش وتتعايش مع حقيقة أن زوجها أهم منها».
ويبدو واضحاً من الرواية، أن الكاتبة أجرت بحثاً موسّعاً عن حياة الشاعرين، مستعينة بالأخصّ، بمجموعة تيد هيوز الأخيرة: «رسائل أعياد الميلاد» للاقتراب من أدقّ التفاصيل التي تخصّ حياتهما. كل التواريخ والشخصيات والأسماء والأماكن والأحداث الواردة في الرواية حقيقية، ولم تفعل الكاتبة سوى تغيير الإضاءة من سيلفيا بلاث الى زوجها تيد هيوز.
يروي تيد هيوز تفاصيل أول لقاء بينه وزوجته الشاعرة الأميركية سيلفيا بلاث قائلاً: «منذ أول لقاء بيننا عضّتني في خدي الى أن أدمته، ساعتها أدركت أن حباً يبدأ هكذا، يُخفي في طياته الكثير من العنف والدمار». وفي سياق آخر يقول: «أن تحبّ أحدهم، يعني أن تتقاتل معه حتى الموت، حتى ينتهي أحدكما». هكذا كانت بلاث تعتقد، وقد أعلنت عن خسارتها المعركة مع مَن تحبّ بانتحارها.
تصوّر الرواية سيلفيا بلاث على أنها شاعرة مبتدئة، وشخصية هشّة، منفعلة، مهزوزة، غيورة، مكتئبة، على عكس هيوز الذي كان شاعراً ناجحاً، وتحلّى بالكثير من الصبر والحكمة في مواجهة بلاث، لأنه كان متأكداً من أنها أعظم حب في حياته. وعندما في النهاية يتحول الى حب امرأة أخرى، يبدو متفهماً لمشاعر زوجته التي عانت كثيراً من هذه الخيانة، ودفعتها في النهاية الى الانتحار: «فوق النصب التذكاري وقفنا، كشاعرَين، لنحيي وليام باتلر ييتس، قرأنا أبياته مرات ومرات، واستمعت بشقاء بالغ إلى زوجتي وهي تردّد بصوت مؤلم، صاف: «لا تعطِ، أبداً، قلبك كله».. ثم قرَأَت وعيناها مصوّبتان نحوي دون أن تندّ عنهما حركة واحدة:
مَن هو الذي استطاع أن يلعب اللعبة جيدا
الأصم، المثقل، الأعمى من الحب؟
أم ذاك الذي خمّن الثمن
قبل أن يمنح قلبه كاملاً، ويخسر
لا أعرف إن كانت الريح أم الأبيات ما جعلت دموعها تسقط، ووجدتني، أمدّ ذراعاً ملؤها الشفقة لأطوّق كتفها، وانتبهت فجأة الى ما كنت أراه خلال الايام الأخيرة وأتجاهله عن قصد… لقد فقدت الكثير من وزنها..».
بين الواقعي والأدبي
يحتمل عنوان الرواية أكثر من ترجمة في لغته الأصلية، فهو يعني من جهة «الكلمة لك» أو «الآن جاء دورك لتتحدث»، في إشارة الى ان الرواية تمنح صوتاً لهيوز الذي ظلّ صامتاً طوال حياته، كما يمكن ترجمته «العهدة على القائل» أو «أنت القائل»، ويبدو أن كاتبة الرواية التي اعتمدت على أحداث وشخصيات حقيقية في رواية أدبية تعمّدت اختيار عنوان يضع المؤلف بين الواقعي والأدبي، إذ، ومع أن كل الأحداث واقعية، إلا أنه يصعب الجزم بأن ما ترويه بلمن، على لسان هيوز حقيقي، توثيقي لحياة الشاعرين، بل هو رؤيته، ومنظوره الشخصي للعلاقة التي جمعته بسيلفيا بلاث، وهو ما أكدته الكاتبة في حوار لها مع صحيفة «إن آر سي» الهولندية قائلة: «لست مهتمة بالنقد، ولا بالسياق الخارجي للرواية، ما رغبتُ به هو ابراز قوة الكلمة». ومعروف عن الكاتبة ميلها الى مزج الواقعي بالروائي، وقد سبق لها أن اعتمدت طريقة السرد نفسها في رواية بعنوان «آي إم» تحدّثت فيها عن علاقتها بصحافي هولندي يهودي مشهور اسمه إيشا ماير، وفي ٢٠٠٧ أصدرت رواية «عود ثقاب» تعرّضت فيها لحياة وموت ملحن هولندي يدعى بيتر شخات.
ولا تخفِ أيضاً الحمولة الدينية للعنوان، فهو مستوحى من قصة العشاء الأخير، الواردة في إنجيل متى، عندما كان يسوع وتلامذته يتناولون العشاء الأخير فأخبرهم يسوع أن واحداً منهم سوف يغدر به ويسلّمه الى الأعداء، فسأله يهوذا: «أهذا أنا يا معلم؟»، فأجابه: «أنت قلت».
«أنت قلت»، رواية تبادل الأدوار، تعيد ترتيب حياة شاعرين، وفق منظور مختلف، مربكة، صادمة، حقيقية الى أبعد حد في تفاصيلها، لكنها حقيقة الطرف الواحد
ترفع الحاجز بين العدل والظلم، لتجعل من الظلم عدلاً، ومن العدل ظلماً، فتخرج بالمفهومين من منظومة أخلاقية الى منظومة شعرية. تمنح صوتاً لمن ليس له صوت، ووجهاً لمن كان ظلاً، وفي الوقت نفسه تثبت عليه تهمة «خيانة» شريكه (سيلفيا بلاث)، وكشف حقيقته لقارئ ظل يعبده «وحده» طوال هذه السنين.
السفير

شاهد أيضاً

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي منال رضوان     المثنوى المعنوى، وديوان شمس لمولانا جلال …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *