نيتشه، من الفيلولوجيا إلى الفلسفة


*فوزية ضيف الله


ولد فريدريك نيتشه في 15 أكتوبر 1844 بروكين، التابعة لوتزين بروسيا، وتوفيّ في 25 أوت 1900. كان أبوه قسّاً بروتستانتياً، وقد سمّاه والده فريدريك لأنّه ولد في اليوم نفسه الذي ولد فيه فريدريك الكبير ملك بروسيا (Prusse)، وكان أجداده ينتمون للكنيسة، وكان والده مربيّاً لأبناء الأسرة الملكية، كان يُلقّبه أصدقاؤه بـ”القسيس الصغير” نظراً لقدرته على تلاوة الإنجيل. دخل نيتشه عالم الفلسفة عبر الفيلولوجيا كعالم في فقه اللغة (la philologie)، وقد مكّنته دراسته الجامعية من تحصيل ثقافة كونية شاملة. فكان اهتمامه الأوّلي متعلّقاً بقراءة الكتب الفلسفية اليونانية القديمة. فكان الفكر الإغريقي القديم الرافد الأساسي لكلّ ما سيقدّمه في التفكير الفلسفي، وهو الذي رأى من خلاله انحطاط عصره.
1- من هو نيتشه؟
لا يبدو أنّه من اليسير علينا أنّ نجيب عن سؤال “من هو نيتشه؟”؛ لأنّ هذا السؤال لا يبحث عن مقدّمة بيوغرافية تلخّص مراحل حياته وكتاباته وصولاً إلى تعكّر صحّته ووفاته. إنّ سؤال “من هو نيتشه؟” يخفي في طيّاته دلالات أعمق من ذلك بكثير، وهو واحد من الفلاسفة الذين لا يدلّ اسمهم على مجرّد تراكم للنظريات أو إنتاج للمذاهب الفلسفيّة. إنّ نيتشه لا يمكن حصر فكره وفلسفته ضمن تراتبية نسقية تحيل على انتظام للمواقف والأفكار والأطروحات، لأنّه فيلسوف “اللاّنسق” أصلاً. لذلك فإنّه لا يمكننا تقديمه مثلما يقدّم عادة لسائر الأعلام والشخصيات الفكرية. فإذا تساءلنا من هو نيتشه؟ فإنّ الإجابة التي سنختارها هي أنّه “فيلسوف جاء في غير أوانه”، وأنّه واحد من الذين “سيولدون بعد الممات”، لكون حياته كانت مزيجاً رديئاً وغير متجانس من الأحداث، فتزامن مجيئه إلى هذه الحياة مع رداءة معاصريه، رغم ضخامة المهمّة الموكولة إليه والمتمثلة في تشخيص وضع الحضارة المريضة، يمكننا أن نسميه “طبيب الحضارة”، كما يحلو له أن يكرّر دوماً، “سابق لأوانه”، هو “فيلسوف المطرقة”، هو “الفيلولوجي البارع”، “الجينيالوجي”، صاحب “الكلمات الأساسيّة” التي أرّقت جميع من قرأها (إرادة الاقتدار، العود الأبديّ للهو هو، العدمية، الإنسان الأرقى والعدل). لا يمكن التنبّه إلى من هو نيتشه لا من خلال “البيوغرافيا” (La biographie) الخاصّة به ولا من خلال ما كتبه، لأنّه لا يمكن إحداث المقارنة بين الأمرين رغم تصريح نيتشه نفسه بالترابط الواضح بين حياته وأفكاره مثلما يدلّ على ذلك روديجي سافرنسكي في كتابه “نيتشه، بيبليوغرافيا فكرة ما” (Nietzsche, Biographie d’une pensée)[1]. ولعلّنا لن نتمكّن من فهم حياة نيتشه وكذلك فكره دون أن نأخذ بعين الاعتبار ما كان يردّده دوماً “أنا شيء وكتاباتي شيء آخر”[2].
لقد عمد نيتشه إلى الكتابة وفق “الشذرات” انطلاقاً من كتابه إنسانيّ مفرط في إنسانيّته، الذي يعتبر نقطة تحوّل في فلسفته، وهو النصّ الذي يؤرّخ عادة لما يسميّه شارحوه “المرحلة الثانية” من فلسفته. لذلك يشهد الكلّ بطرافة أسلوبه في الكتابة وغرابة بناء نصّه. لكأنّه يرغب في اختراق ما دأب عليه الفلاسفة من سنن في الكتابة الفلسفية. فكانت قراءته مستعصية نظراً لتعسّر فهم ما يعنيه حيناً واحتجاب مقاصده حيناً آخر. إذ تمتنع “كلماته” عن الفهم، عندما كانت معانيها متناثرة هنا وهناك بين شذرة وأخرى. وقد تتعدّد الأفهام بتعدّد المنظورات واختلاف زوايا النظر. فقد تواترت القراءات للأثر النيتشويّ منذ ما يناهز نصف قرن فتداخلت وتضاربت، فصار تعدّد التأويلات هو الآخر عائقاً أمام فهم فلسفته. لقد حفّز الأثر النيتشوي العديد من القراءات طيلة القرن العشرين ومازال مؤثّراً في قرّائه إلى اليوم. لكن هذه القراءات التي تعدّدت وتواترت، كان بعضها موجّهاً لغايات إيديولوجية وسياسيّة، على غرار قراءة بوملار نفسه. وكان بعضها الآخر من القرّاء المنتمين إلى “اليمين الجديد” (Karl Bindung وAlfred Hoch) مساهمين في تحقيق هذه الغايات من جهة ردّهم “إرادة الاقتدار” إلى النزعة البيولوجيّة، وتأكيدهم على أنّها تشرّع لانتقاء العناصر ومنع الضعفاء والمرضى من التناسل والتكاثر. فصارت فلسفة نيتشه – التي قامت بقراءة الحضارة قراءة جينيالوجيّة- موظّفة لتبرير قيام الأنظمة النازيّة.
2- نيتشه، مشكل أثر:
يبدو أنّ المشكل الأكبر الذي يعترض القارئ لنيتشه هو الأثر النيتشوي نفسه: بمعنى هل تكمن فلسفة نيتشه الأصيلة في جملة الآثار التي نشرها بنفسه أو في ما خلّفه دون نشره (Nachlass)[3]؟
ثمّة موقف أوّل يصرّح أنّ المعطى النيتشوي الأصيل يكمن في آثاره المنشورة بعد مماته (Nachlass)، هذا الموقف يمثّله كثيرون من بينهم ويرزباخ[4] (F.Würzbach) وهيدغر (1889-1976). إذ يعدّ هيدغر كلّ ما نشره الفيلسوف بنفسه “خارجاً عن الأثر” (Vordergrund)[5].
أمّا الموقف الثاني الذي يمثّله كلّ من كارل شليشته (Schlechta) وسارة كوفمان (S.Kofmann) فيتحدّد في أنّ المعطى النيتشوي الحقّ كامن ضمن الآثار التي أعدّها نيتشه ونشرها بنفسه: يصرّح شليشته ضمن كتابه (Der Fall Nietzsche) الذي صدر سنة (1958) أنّه يشرع في قراءة نيتشه انطلاقاً من إنسانيّ مفرط في إنسانيّته، فلا يعترف إلاّ بالنصوص المنشورة في الفترة الممتدّة من 1878 إلى 1889.
أمّا الموقف الثالث فهو الذي يعتبر فلسفة نيتشه الحقيقيّة كامنة في الرسائل الكاملة (Sämtliche Briefe)، ويتبنّاه كورت بول يانز (Curt Paul Janz) ناشر آثار نيتشه الموسيقيّة. أمّا كارل يسبرس فيؤكّد على ضرورة قراءة الأثر النيتشوي ككلّ، ذلك أنّ “كلماته” لا يمكن أن تكون معزولة عن باقي ما كتب، بل من الممكن أن يتجلّى ما هو “أساسيّ” في فكره ضمن ما نعتقد أنّه هامشيّ وعرضيّ[6]. كما يلحّ على ضرورة تناول الأثر النيتشوي بكلّ جديّة وأنّ الإمساك بالفهم لا يكون رهين التفطّن إلى “الأثر الأساسيّ” لديه. ذلك أنّه لا وجود لأثر ينفرد بنفسه ويتميّز على حساب الآثار ككلّ. كما لا يرى في تضارب التأويلات عائقاً أو أمراً عقيماً، بل يعتبره محفّزاً لفهم أكثر دقّة لنيتشه.
تجدر الإشارة إلى أنّ شليشته نشر آثار نيتشه في ثلاثة مجلّدات وذلك طيلة السنوات 1954-1955-1956 عند الناشر كارل هنسر فرلاغ (Carl Hanser Verlag) بميونيخ، وهذا الناشر هو الذي شجّعه على ما عزم عليه[7]. كما توجد نشرات أخرى مختلفة للآثار الكاملة لنيتشه، حيث تعتبر النشرة الألمانية التي أعدّها كلّ من جيورجيو كولي ومازينو منتيناري، النشرة الأكثر جدّة، الأشهر والمعتمدة أكثر. لقد شرع هذان الناشران بنشر الترجمة الإيطالية لآثار نيتشه منذ سنة 1964، وأعيدت ترجمتها فيما بعد في اللغة الفرنسيّة وفي اللغات الأخرى. وقد قام كلّ من جيورجيو كولي ومازينو منتيناري -المسؤولان عن النشرات الأربع- بتبويب مخطوطات نيتشه وفق نظام تتابعها الزمنيّ. في حين قامت نشرة غروس-أوكتاف-أوسغاب (Gross-Oktav-Ausgabe) بنشرها استناداً إلى نظام تواتر المواضيع. لقد تمّ نشر الطبعة الألمانيّة عند دي غريتر (W. de Gruyter) سنة 1967، أمّا الطبعة الايطاليّة فنشرت عند أدلفي (Adelphi) سنة 1975. كما نشرت الطبعة الفرنسيّة عند غاليمار (Gallimard) سنة 1978 تحت مسؤوليّة جيل دلوز وموريس دي غوندياك (Maurice de Gondillac)[8].
تتضمّن النشرة التي أعدّها جيورجيو كولي ومازينو منتيناري أربعة عشر مجلّداً: احتوى المجلّد الأوّل “ولادة التراجيديا” والشذرات المتخلّفة الممتدّة من 1869 إلى 1872 والكتابات المتخلّفة التي تعود إلى الفترة الممتدّة من 1870-1873. المجلّد الثاني: “اعتبارات لازمنيّة 1و2″، “اعتبارات لازمنيّة 3 و4″، الشذرات المتخلّفة التي تعود إلى السنوات الممتدّة من 1874 إلى 1876. وتضمّن المجلّد الثالث “إنسانيّ، مفرط في إنسانيّته” والشذرات المتخلّفة التي تعود إلى الفترة الممتدّة من 1876 إلى 1879 في جزأين. خصّص المجلّد الرابع لـ “فجر” والشذرات المتخلّفة التي تمتدّ من 1879 إلى 1881، المجلّد الخامس لـ”المعرفة المرحة” والشذرات المتخلّفة من 1881 إلى 1882، المجلّد السادس لـ”هكذا تحدّث زرادشت”، المجلّد السابع لـ”ما أبعد عن الخير والشرّ” و”جينيالوجيا الأخلاق”، المجلّد الثامن لـ”حالة فاغنار” و”أفول الأصنام” و”ضدّ المسيح” و”هذا هو الإنسان” و”نيتشه ضدّ فاغنار”. وقد خصّصت المجلّدات المتبقّية لجملة من القصائد والشذرات المتخلّفة من 1882إلى 1889.
هل كان الأثر النيتشوي عرضة للتحريف؟
خصّص مازينو مونتيناري الفصل الأوّل من كتابه (la volonté de puissance n’existe pas (للتحدّث عن الحال التي كانت عليها النشرة الكاملة لأعمال نيتشه قبل صدور نشرة شليشته. لقد شرعت أخت الفيلسوف إليزاباث فورستار-نيتشه في تأسيس أرشيف-نيتشه (Nietzsche-Archiv) منذ 1894 الذي نقلته فيما بعد إلى أرشيف-فايمار (Weimer-Archiv). لذلك كان صدور نشرة غروس-أوكتاف-أوسغاب (Gross-Oktav-Ausgabe) ما بين 1894 و1926- لدى نومان (G. Naumann) أوّلاً ثمّ لدى كرونار (Kröner)- محصّلة نشاطات الأرشيف المخصّص لنيتشه. احتوت هذه النشرة ثلاثة أقسام: خصّص القسم الأوّل للآثار التي نشرها نيتشه بنفسه وضمّ ثمانية أجزاء. وتكفّل القسم الثاني بنشر الآثار المتخلّفة (Nachlass) وضمّ تسعة أجزاء، ونشر ما بين 1901 و1911. أمّا القسم الثالث فيتكوّن من الأجزاء المتبقية ويتضمّن نصوص نيتشه الفلسفيّة. يؤكّد مازينو منتيناري أنّ هذه النشرة كانت الأساس الذي عوّلت عليه سائر النشرات اللاّحقة عليها. لقد كان مازينو مونتيناري وكولي جيورجيو يفكّران منذ 1933 في إعداد نشرة جديدة تضمّ أعمال نيتشه الكاملة، غير أنّ أخت الفيلسوف حالت دون ذلك. وفي أفريل 1961 اطلّع مونتيناري على مخطوطات نيتشه ضمن أرشيف- فايمار، واستعدّ بالتعاون مع أستاذه جيورجيو كولي في التفكير لنشر أعمال نيتشه الكاملة في نشرة نقديّة، فنشرا المجلّدات الأولى في طبعة إيطاليّة سنة 1964. ثمّ تلقّت دار النشر الألمانيّة فالتر دي غروتار (Walter de Gruyter) حقوق نشر هذه الأعمال في لغتها الأصليّة، وتلتها غاليمار (Gallimard) الفرنسيّة وأدلفي (Adelphi) الإيطاليّة. لقد أخذت النشرة الألمانيّة في الظهور منذ 1967 واستمرّت طيلة اثني عشر عاماً، واحتوت ثلاثة وثلاثين مجلّداً مقسّمة على ثمانية أقسام. لقد أصبحت “آثار نيتشه المتخلّفة” (من 1869 إلى 1889) في المتناول بفضل هذه النشرة النقديّة الجديدة، وتضمّنت ما يقارب 5000 صفحة مقارنة بنشرة غروس-أوكتاف-أوسغاب التي لم تتضمّن سوى 3500 صفحة[9].
تواتر نشرات أخرى:
صدرت “أعمال نيتشه الكاملة ضمن نشرات ألمانية أخرى: نشرة ج. نومان فرلاغ (G. Naumann Verlag) سنة 1909 واحتوت على عشرين مجلّداً نشرة هانس يوياخيم مات (Hans Joachim Mette) من 1933 إلى 1940 وتضمّنت سبعة مجلّدات)، نشرة ويليام هوب (Wilhem Hoppe) وكارل شليشته (Karl Schlechta) الصّادرة سنة 1938 والتي تضمّنت أعمال نيتشه وكذلك رسائله من 1850 إلى 1865 واحتوت مجلّداً منفرداً). كما أعدّ كارل شليشته بمفرده نشرة لأعمال نيتشه الكاملة تضمّنت ثلاثة مجلّدات وصدرت سنة 1956، نشرات ألفراد كرونر فرلاغ (A. Kröner Verlag): صدرت الأولى سنتي 1938-1939 في مجلّدين وصدرت الثانية سنة 1964 متضمّنة أثر إرادة الاقتدار، وصدرت النشرة الثالثة لكرونر فرلاغ سنة 1965 متضمّنة اثني عشر مجلّداً، وصدرت النشرة الثالثة لكرونر فرلاغ سنة 1978 متضمّنة مجلّدين اثنين)، ثمّ نشرة هانسر فرلاغ (Hanser Verlag) وإيفو فرنزال (Ivo Frenzel) التي صدرت في مجلّدين.
تعدد الترجمات الفرنسية للأثر النيتشوي:
توجد عدّة ترجمات فرنسيّة لأعمال نيتشه الكاملة، منها النشرة التي قام بها هنري ألبار (Henri Albert) ونشرت لدى مركور دي فرانس[10]، إلى جانب نشرة كولي ومونتيناري التي عمد إلى ترجمتها مجموعة من المفكّرين[11]، على مسؤوليّة جيل دلوز وموريس دي غندياك. كما أعاد مارك دي لوناي (Marc de Launay) ترجمة الأعمال الكاملة لنيتشه انطلاقاً من نشرة كولي ومنتيناري ونشرت لدى غاليمار سنة 2000. كما ترجمت أعمال نيتشه إلى الإنجليزيّة ضمن نشرة ألكسندر تايل واحتوت هذه الترجمة أحد عشر مجلّداً[12]، وترجمت كذلك إلى الإيطاليّة لدى أدلفي (Adelphi) سنة1975.
قائمة آثار نيتشه (1844-1900):
– ولادة التراجيديا (1872)،
– اعتبارات على غير أوانها I، دافيد ستورس، (1873)،
– اعتبارات على غير أوانها II، في منفعة ومضارّ الدّراسات التاريخية على الحياة، IIIشوبنهاور المعلّم (1874)،
– اعتبارات على غير أوانها IV، ريتشارد فاغنار لدى بيروث، (1876)،
– إنسانيّ مفرط في إنسانيّته، القسم الأوّل، (1878)،
– إنسانيّ مفرط في إنسانيته، القسم الثاني، (1879)،
– المسافر وظلّه، (1880)
– فجر، (1881)،
– العلم الجذل، IV-I، (1882)،
– هكذا تكلّم زرادشت، (II-I)، 1883،
– هكذا تكلّم زرادشت، III (1884)، (1892) IV،
– فيما أبعد من الخير والشرّ (1886)،
– في جينيالوجيا الأخلاق، العلم الجذل V، (1887)،
– حالة فاغنار، آخر أثر أشرف نيتشه على نشره بنفسه، (1888)،
– الآثار المنشورة بعد مرض نيتشه: أفول الأصنام (1889)، ضدّ المسيح (1894)، نيتشه ضدّ فاغنار (1894)، هذا هو الإنسان (1908).
يرتب الشارحون لنيتشه آثاره وفق ثلاث فترات متميّزة، ويمكن أن نذكر هنا التقسيم الثلاثي الذي وضعه شارل أندلار (Charles Andler):
الفترة الأولى: تتضمّن ولادة التراجيديا واعتبارات على غير أوانها، ويسميّها “التشاؤميّة الاستيتيقية” (le pessimisme esthétique)، نظراً لتأثر نيتشه خلال هذه الفترة بتشاؤميّة معلّمه أرثور شوبنهاور.
الفترة الثانية: تتضمّن: إنساني مفرط في إنسانيّته، فجر والعلم الجذل، ويسميّها أندلار “التحوّلية العقلانيّة” (le transformisme intellectualiste).
الفترة الثالثة: ويسميّها “الفلسفة الأخيرة” (la dernière philosophie) وتتضمّن جملة الآثار المتبقية بدءاً بـ هكذا تكلّم زرادشت.
3- البدايات الفيلولوجيّة لنيتشه:
قدم نيتشه إلى جامعة بون (Bonn) في أكتوبر 1869 وسجّل فيها لدراسة علم الثيولوجيا، لكنّه واصل في تلك الأثناء متابعة دروس الفيلولوجيا الكلاسيكيّة. لذلك اكتشف النقد الذي يمكن أن يتعلّق بعلم الثيولوجيا في حدّ ذاتها، ليجعل من الفيلولوجيا مؤدية إلى خوض ممارسة نقدية للثيولوجيا. كما تعلّم المناهج الضروريّة لهذا العلم بإشراف الأستاذ المختصّ في الفيلولوجيا الكلاسيكيّة فريديريك ويلهام ريتشال (Ritschel Friedrich wilhem, 1876-1806). وعندما كان نيتشه عازماً على التسجيل في جامعة ليبتسيش (Leipzig) للتقرّب من أحد أصدقاء بفورتا (Pforta) – وهو كال فون غيسدورف الذي كان يشرف عليه في الفترة نفسها التي سمّي فيها ريتشال أستاذاً بها- لم يعد ثمّة لدى نيتشه حديث عن المسألة الثيولوجيّة أصلاً.
لقد كان نيتشه بالغ الاهتمام بعلم الفيلولوجيا خلال فترة دراسته لها بجامعة ليبسيش، بل كان مبدعاً، منتجاً، فأنجز سنة 1866 بحثاً تحت إشراف أستاذه ريتشال اهتمّ فيه بثيوغنيس (Théognis) ونجح في نشره سنة 1867 ضمن “Rheinisches Museun für Philologie”. كما التزم نيتشه بتشجيع من أستاذه ريتشال بالبحث في الأصول الأولى لكتابات ديوجين اللايرسي، وكان هذا البحث النيتشوي موضوع دراسة الفيلسوف الفرنسي “Victor-Emile Egger” (1848-1907)، صاحب كتاب الريبيون الإغريق (Les sceptiques grecs) المنشور سنة 1887.
عمل نيتشه ما بين 1866-1868 على الاهتمام بالبحوث حول ديمقريطس لتعميق دروسه في علم الفيلولوجيا في جامعة بازل. حيث اكتشف في الفيلولوجيا الدقّة والجديّة والتأنيّ، لكنّه على خلاف أستاذه ريتشال كان يؤكّد أنّ البيداغوجيا والفلسفة عليهما أن يتعاونا مع الثقافة الفيلولوجية في حدّ ذاتها، حتّى تصبح الفيلولوجيا منهجاً لقراءة النصوص بدقّة وتأنٍّ، وهو ما جعله متحفّزاً للقراءة النقدية وللقراءة الهرمينوطيقية للتأكّد من أصالة النصوص عامّة وتطبيقها على النصوص القديمة خاصّة. لذلك شرع في قراءتها لفهمها وتأويلها انطلاقاً من ترسّخها في الفيلولوجيا نفسها.
تتحدّد الفيلولوجيا ضمن تعريف أوّلي إذاً على أنّها منهج دقيق لقراءة النصوص، معاينة أصالتها، وفهمها فهماً أصيلاً، وهو ما يجعل السياق الفيلولوجي مناسباً لنشأة “السياق التأويلي”. والفيلولوجيا هي فنّ القراءة البطيئة، التي تستدعي الحذر الشديد في تعاملها مع التأويلات أو النصوص. تتوقّف القيمة في فقه اللغة عن كونها مجرّد معيار للحقيقة وتصبح التأويلات موضعاً لاكتشاف حقيقة أخرى نابعة من فضح العلامات التي لم تعد بريئة. يقرأ الفيلولوجي الكلمات، في حين أنّنا نقرأ الأفكار، فالفيلولوجيا هي “كشف شفرات الوقائع دون خلطها بتأويلات ما (إيريك بلوندال، نيتشه الجسد والحضارة، ص.141)”[13].
يتجلّى المنحى التأويلي في حديث نيتشه عن الفيلولوجيا منذ بداياته الفيلولوجية من خلال اهتمامه بالبحث عن المعنى والأصالة داخل النصوص القديمة (الإلياذة والأوديسة مثلاً)، للتمييز الدّقيق بين المفاهيم المتداخلة في دراسة الفقه الكلاسيكيّ. ولذلك كان شديد الحرص على التأكّد من أنّ الهرمينوطيقا لصيقة بالبحث الفيلولوجي. كما يشدّد على ضرورة ربط الهرمينوطيقا بالنقد، وعبّر عن التفاعل الحاصل ضرورة بينهما في قوله: “النقد يهمّ النقل، والتأويلية تهمّ المنقول”[14]. ويبدو جليّاً من خلال هذا القول أنّه ينبغي على الفيلولوجي أن ينخرط في النقد والهرمينوطيقا على حدّ سّواء، وهذا الأمر لا يراه نيتشه مسألة منهج فحسب بل مسألة التزام إيتيقي[15]. ترتبط الفيلولوجيا بالفلسفة، لذلك يستشهد نيتشه بقولة لسيناك (Sénèque): “حيثما ثمّة فيلولوجيا، فثمّة فلسفة”[16]، لأنّ “كلّ نشاط فيلولوجي يجب أن يكون موجّهاً ومؤطّراً ضمن تصوّر فلسفيّ للعالم”[17]. لذلك يدخل نيتشه عالم الفلسفة بعد أن أرسى أسسه الفيلولوجية.
4- من الفيلولوجيا إلى الفلسفة:
ولادة التراجيديا:
لقد اجتمعت في فلسفة “مولد التراجيديا” المرجعيّة الفنيّة نظراً لعشق نيتشه لـ فاغنار الذي كان يعتبره قيمة ثقافيّة متميّزة، ومرجعيّة أدبيّة نظراً لعشقه لـهولدرلين، إلى جانب مرجعية أخرى فلسفيّة من خلال استناده على كلّ من شوبنهاور وكانط. لذلك لم يتحدّث نيتشه عن التراجيديا اليونانيّة بلغة أرسطية أو بلغة تاريخية، لكنّه تحدّث عنها بلغة فنيّة انطلاقاً من تعلّقه وعشقه للموسيقى الفاغنارية خاصّة، لذلك كان عنوان هذا الأثر الذي دخل به نيتشه إلى الفلسفة “ولادة التراجيديا من خلال روح الموسيقى”. يرى نيتشه أنّ هذا الأثر هو “غير ملائم للعصر”، وأنّ ما هو جديد فيه هو أمران حاسمان: الأمر الأوّل هو سعيه إلى فهم “ظاهرة ديونيزوس” لدى الإغريق، وهي الظاهرة التي اكتشف لأوّل مرّة أنّها ظاهرة “نفسية” أساساً، فجعلها منبتاً أصليّاً ومولداً للفنّ الإغريقي عامّة. أمّا الأمر الثاني فهو “ظاهرة سقراط” في حدّ ذاته الذي يظهر لأوّل مرّة في صورة المنحطّ، بل نموذجاً للانحطاط والتفكّك الاغريقي، ذلك أنّ العقل السقراطي يظهر مناقضاً للغريزة وللفنّ وللحياة، فهو رمز انحطاط الحياة من الدّاخل. يكشف هذا الأثر عن نشأة التراجيديا من روح الموسيقى، وانطلاقاً من الصّراع بين ظاهرتين فنيّتين هما أبولون وديونيزوس، فيرمز الأوّل إلى “الحلم” والثاني إلى “النشوة”. لقد أقدم نيتشه من خلال هذه الثنائيّة على إحداث قلب جذريّ للأنساق الفلسفية جاعلاً دخوله للفلسفة بعد اهتمامه بالفيلولوجيا منصبّاً على الظاهرة الفنيّة بامتياز ومركّزاً على انتعاش القيم الجمالية الإستيتيقية التي تجد إثباتها الأقصى في التوحّد بين إله الحلم وإله النشوة، تجاوزاً للفردانية ومعانقة للزمن الأبديّ الذي يتجلّى في العودة إلى الأصل. فالتراجيديا في هذا السياق هي الدّليل القاطع على أنّ الإغريق لم يكونوا يوماً متشائمين، بل كانت حيلة في الانتصار على التشاؤم، وهاهنا يحيل نيتشه إلى خطأ شوبنهاور في تأويله للتراجيديا وفي جعله للحياة مناقضة للغريزة[18].
تُعدّ التراجيديا عند نيتشه مقاومة للموت، عشقاً للحياة، معانقة للمتعالي وممارسة للذّة لحظة الألم. نقرأ في مولد التراجيديا ازدواجيّة في اللغة مقترنة بازدواجية في الرؤية نفسها. فيتحدث نيتشه عن التراجيديا اليونانية وعن العصر الهيليني في لغة تجمع بين الشاعرية والرمزية. أمّا فيما يخصّ ازدواجية الرؤية فتظهر فيما سمّاه نيتشه “الروح العلميّة” و”الروح الديونيزوسية”. يعرّف نيتشه “الروح العلميّة” على أنّها اعتقاد ظهر أيّام سقراط وأنّه معرفة الطبيعة وحقائقها. وتتلخّص هذه “الروح العلمية” أساساً في المعرفة الحقيقية، الفضيلة وسقراط نفسه من جهة إحالته على المبادئ السقراطية الثلاثة والمتمثلة في: الفضيلة معرفة، لا نذنب إلا عن جهل، الإنسان الفاضل سعيد.
لقد حكمت هذه الروح العلميّة على التراجيديا بالاحتضار والموت لكونها تزدري الفنّ والشعر وتنفي الغريزة والجسد. لذلك تقوم “الروح الديونيزوسية” على أنقاض هذا التصوّر السقراطي للحياة، فيفسح نيتشه المجال للغريزة والفنّ والمسرح والموسيقى. ففي الموسيقى يعود ديونيزوس بعد اختفاء طويل معبّراً عن الإرادة الكونيّة، وهو أمر لا يتحقّق إلاّ بالموسيقى لكونها تعطي للأسطورة معنى ميتافيزيقا أكثر نفاذاً وإقناعاً.
تتخلّص التراجيديا من الواقع اليوميّ والعالم الخارجي بفضل الأسطورة والموسيقى، فبالموسيقى يتحرّر الجسد وبالأسطورة نعانق الزمن الأصليّ. فالأسطورة هي قصّة فعل الآلهة في بداية الزمن، فإذا كان الزمن الأولي متعلّقاً بالزمن الأبديّ المقدّس، فإنّه من شأن العودة إلى عمق الماضي أن تنسينا كلّ شيء، كلّ ألم وكلّ قلق. وإن كان أكبر ألم لدى الإنسان هو الموت، فإنّ التراجيديا تكون في عمقها للموت نفسه والانصهار في الزمن الأبديّ.
نيتشه ومسألة الحضارة:
أيّة علاقة بين الفكر النيتشوي ومسألة الحضارة؟ وهل أنّ نقده لها هو نقد من جهة التقويم أم من جهة الهدم والتقويض؟
إذا كان نيتشه قد سمّى نفسه “طبيباً للحضارة” فذلك من جهة تشخيص الأمراض التي ألحقت الفساد بالحضارة، بدءاً بسقراط نفسه الذي يعتبره مسؤولاً عن انحطاط الحضارة اليونانيّة وانحطاط الفكر الفلسفي عامّة، وذلك من جهة اهتمامه بالعقل والفضيلة على حساب الحياة ومتطلّباتها الإستيتيقية، لذلك اعتبر التراجيديا الإغريقية من جهة قيامها على المأساة انحطاطاً للفنّ وللفكر والحضارة.
إنّ التقدّم العلمي والتكنولوجيا هما من أهمّ الدّعائم التي قامت عليهما الحداثة، لذلك انتقدها نيتشه نقداً لاذعاً في كتابه فيما أبعد من الخير والشرّ، وهو الكتاب الذي يُعدّ في جوهره نقداً للحداثة وللعلوم الطبيعية والفنون الحديثة التي يزعم بعضهم أنّها جلبت السعادة والرّخاء والقوّة لإنسان أوروبا. يتعجّب نيتشه من اعتقاد البعض أنّ غاية العلم هي السعادة ودفع الضرر والألم في حين أنّ أسمى غايات العلم أن يجلب للإنسان أكبر قدر من اللذّة ويجنّبه أقلّ قدر من الألم. فكيف سيتمكّن العلم من ذلك إن كان يعتبر اللذة والألم عقدة واحدة وأمراً واحداً، فمن يريد أن يبلغ قدراً أكبر من اللذة عليه أن يعاني القدر نفسه من الألم؟
تقودنا وسائل التقدّم الحضاري إلى التفكّك والانحطاط، لذلك ينظر نيتشه إلى الحداثة نظرة قاتمة، لأنّ كلّ القيم التي أنتجتها هي قيم انحطاط سواء كانت علمية أو أخلاقيّة.
يتصوّر نيتشه قيام الحضارة في غياب ذاكرة تاريخية، رغم أنّ الإسراف في التاريخ يمكن أن يؤدي إلى بروز شعور بولادة موغلة في التأخّر، وكذلك بانحطاط الحضارة نفسها. فمرض التاريخانية يهدّد الحياة الحاضرة كما يهدّد أيضاً الحياة المستقبلية. يجب إذن أن نفهم التاريخ فهماً غير تاريخي حتى نستبشر بالمستقبل، إذ “تقتضي الحياة أن نجعل الحاضر مماهياً للماضي، بحيث أنّ عنفاً ما، تحويراً ما يصبح مرتبطاً دوماً بالفهم” (الشذرة 29 من الشذرات المتخلفة، خريف شتاء 1873). يقترح نيتشه أنّ ما كان ممكناً في الماضي يمكن أن يظلّ ممكناً في المستقبل، كما اعتقد الفيثاغوريون أنّ عودة القرائن السماويّة نفسها إلى الظهور ينتج عنها المعاودة الدقيقة للأحداث نفسها[19].
فلسفة إرادة الاقتدار: التأويل والتقويم.
تكمن مهمّة إرادة الاقتدر في التقويم الأخلاقي (évaluation) وفي التأويل (interprétation). “إنّ إرادة الاقتدار هي التي تُؤوّل وتُقوّم. فإن كان التأويل هو تحديد الاقتدار الذي يعطي معنى للشيء، فإنّ التقويم هو تحديد لإرادة الاقتدار من جهة ما تعطيه للشيء من قيمة، وهكذا تُشتقّ قيمة القيم ودلالة المعنى من إرادة الاقتدار نفسها”[20]. فأن تكون إرادة الاقتدار تقويماً هو أن تكشف عن قيم “الخير والشرّ” فتبحث في جينيالوجيا الأخلاق وتنظر في تكوّن مفاهيم وتقويمات أخلاقية مثل “الحسن والقبيح”، و”النافع والضارّ” و”الخيّر والشرّر”. ينبغي على الفيلسوف أن يحلّ مشكلة القيمة، وعليه أن يعيّن تراتبية القيم. فقيمة “اللئيم” مثلاً لا تدلّ على حكم أخلاقيّ أو سوء في الأفعال، بل هي تقويم لنمط من السلوكات البشرية تحدّده إرادة الاقتدار نفسها. يكشف البحث الجينيالوجي في القيم أنّه كان للسادة الحقّ في إعطاء أسماء للقيم إلى الحدّ الذي صارت فيه اللغة تجليّاً لقدرتهم وسيادتهم. فالإحساس بالمسافة ما بين العبد والسيّد هي أصل التضّاد بين الكريم واللئيم، الخيّر والشرير[21].
تكمن قيمة العالم في تأويلنا له، فلا توجد وقائع، ليس إلاّ تأويلات”، لذلك تبحث إرادة الاقتدر من جهة ما هي تأويل عن أصول الأشياء المسكوت عنها، التي تظهر وراء أسماء أخرى لا تعنيها، فيعثر عنها في الحضارة وفي الجسد الذي يحتوي الحياة والتأويل. يتعيّن الجسد هاهنا الخيط الناظم لكلّ التأويلات، لذلك فكلّ قراءة تمرّ عبره وبه. إنّ التأويل هو عمل الغرائز التي تحرّكها إرادة الاقتدار، فيكون عمل الغرائز موازياً لعمل المعاني، “بل إنّ التأويل نفسه هو اختراع لغرائز جديدة، هو تدريب للنفس على التعلّق بالحياة لأنّ الاستغناء عن الحياة هو موقف نسكيّ. فأجسادنا تعطي لحياتنا معنى ما، وهذا المعنى نعاني لأجل إقامته وتحصيله”[22].
نيتشه فيلسوف المستقبل[23]:
يكشف هذا العنوان الفرعي -“تباشير فلسفة المستقبل”- الذي وضعه نيتشه لكتابه في ما أبعد من الخير والشر (1886) عن اتجاه الثورة الفلسفية التي خطط لها نيتشه، ومن ثمّ سعى إلى إنجازها. فهدف نيتشه هو إنشاء “فلسفة المستقبل” التي لا علاقة لها بتاريخ الفلسفة العتيد. وهذا يعني أنّ الكتاب يحمل نقداً وتقويماً لتاريخ الفلسفة من سقراط إلى ما قبل نيتشه. أن يكون نيتشه “فيلسوف المستقبل” هو أن يكون فيلسوفاً يأتي “على غير أوانه”، بأفكار سابقة لأوانها، “تطلّعاً إلى كلّ ما هو ممنوع”[24]، ونقداً لكلّ ما هو معاصر، فالتناقض صارخ بين “جسامة مهمّة الفيلسوف” و”حقارة معاصريه” الذين وصلوا حدّ تقديس القيم المناقضة للحياة[25]. إنّ الفيلسوف في نظر نيتشه هو “إنسان للغد وبعد الغد”[26]، لذلك لم يكن يكتب لمعاصريه، بل لجيل سوف يأتي. ومن البدهيّ أن يكون “فيلسوف المستقبل”، على تناقض مع حاضره في كلّ الأزمنة[27]، لكنّه يكون على يقين من أنّه “سيُكتب النصر لفلسفته ذات يوم”[28]، فلن يكترث بما يمكن أن تلاقيه فلسفته وكلماته من سوء فهم، لأنّه من الذين “يولدون بعد الممات”[29]. فقد كان نيتشه متأكّداً من أنّ مولد التراجيديا هو مؤلّف “غير ملائم للعصر”[30]، لذلك سمّاه “كتاب العقول الحرّة”، قاصداً “فلاسفة المستقبل”، فخصمه يكون في كلّ مرّة متمثّلاً في “حاضره”. فلا يكتب نيتشه للذي كان ولا للذي يكون، لكنّه يخاطب من سيأتي من بعده، فهو “لا يطمع [يومها] في وجود آذان وأيادٍ لحقائقه”[31]، فمهمّته تكمن في الإعداد لللّحظة التي تعود فيها الإنسانيّة إلى نفسها، لحظة “الظهيرة العظمى”، حيث تكون الشمس في كبد السّماء باسطة نورها على الكون كلّه، وتكون الإنسانيّة قادرة على النظر بجلاء إلى الوراء (الماضي) وإلى الأمام (المستقبل)[32].
* نشرت هذه الدراسة في مجلة “يتفكرون”، 2015، العدد 6

[1]- Rüdiger Safranski, Nietzsche biographie d’une pensée, traduit de l’allemand par Nicole Casamosa, Paris, Solin, Actes Sud, 2000.

[2]- نيتشه، هذا هو الإنسان، ترجمة علي مصباح، الطبعة الأولى، منشورات الجمل، 2003، “ما الذي يجعلني أكتب كتباً جيّدة”، ص 65

[3]- G. Colli et M. Montinari, «Etats des textes de Nietzsche », trad. Hans Hildenbrand et Alex Lindenberg, in Cahiers de Royaumont n° VI, Colloque Nietzsche 1964, Paris, Ed de Minuit, 1967, p.127.

[4]-F. Würzbach, Das Vermächtnis Friedrich Nietzsches, (L’Héritage de F.N), Graz (Autriche), Pustlet, 1943, Préface, p. X: , Charles Murin, Nietzsche problème, généalogie d’une pensée, Paris, J.Vrin, les presses de l’Université de Montréal, p. 37.

[5]-Heidegger, Nietzsche I, Trad. P. klossowski, Paris, Gallimard, 2001, p.18.

[6]-Karl Jaspers, Nietzsche introduction à sa philosophie, Trad. Henri Niel, Lettre préface de J.Wahl, Paris, Gallimard, 1980, Introduction, pp.12-13.

[7]- Schlechta, Le cas Nietzsche, Paris, Gallimard, 1960, Avant-propos, p.11.

[8]- Marc B. de Launay, «Œuvres philosophiques complètes», in «Dossier Nietzsche», Allemagnes d’Aujourd’hui, Revue française d’information sur les deux Allemagnes, Paris, Hamonic, Nouvelle série, N° 48, Mai-Juin 1975, pp.55-60.

[9]- انظر: Mazzino Montinari, «La volonté de puissance» N’EXISTE PAS, Paris, L’Eclat, 1996.، ترجمه عن الإيطاليّة، باتريسيا فارازي (Patricia Farazzi) وميشال فالنسي (Michel Valensi)، ص ص 13-27

[10]- Œuvres complètes de Frédéric Nietzsche, publiées sous la direction de Henri Albert, Paris, Mercure de France.

[11]- Pierre Klossowski, Robert Rovini, Julien Hervier, Maurice de Gandillac, Cornelius Heim, Isabelle Hildenbrand, Jean Gratien.

[12]- The Works of Friedrich Nietzsche in Eleven Volumes, éd. Alexandre Tille, Londres, Henry et Co, 1896-1909.

[13]- فوزية ضيف الله، “تأويلية إرادة الاقتدار عند نيتشه”، مجلّة مقاربات فلسفيّة، تصدر عن مخبر الفلسفة والعلوم الإنسانية، قسم الفلسفة، كليّة العلوم الاجتماعية، جامعة عبد الحميد بن باديس، مستغانم، الجزائر، العدد الثاني، جوان 2014، ص 182

[14]- Cf, Philologica, I, op.cit., P.328, cité par Angèle Kremer- Marietti, Nietzsche et la rhétorique, Paris, P.U.F, 1992, p.28.

[15]- المصدر نفسه، الموضع نفسه.

[16]- Nietzsche, «Sur la personnalité d’Homère», suivi de «Nous autres philologues», Traduit de l’allemand par Guy Fillion, Présentation de Christian Molinier, Paris, Le Passeur, 1992, p.40.

[17]- المصدر نفسه، الموضع نفسه.

[18]- نيتشه، هذا هو الإنسان، ص 80

[19]- انظر، فوزية ضيف الله، “من فينومينولوجيا الذاكرة إلى جينيالوجيا النسيان”، مجلّة يتفكّرون، مؤمنون بلا حدود، الرباط، العدد الرابع، الهويّة والذاكرة ومسارات الاعتراف، صيف 2014، ص ص 76-87

[20]- دلوز، نيتشه والفلسفة، ترجمة أسامة الحاجّ، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، 2001، ص 54، ذكرته فوزية ضيف الله، “تأويلية إرادة الاقتدار عند نيتشه”، مجلّة مقاربات فلسفيّة، تصدر عن مخبر الفلسفة والعلوم الإنسانية، قسم الفلسفة، كليّة العلوم الاجتماعية، جامعة عبد الحميد بن باديس، مستغانم، الجزائر، العدد الثاني، جوان 2014، ص 179

[21]- انظر، فوزية ضيف الله، “تأويلية إرادة الاقتدار عند نيتشه”، مجلّة مقاربات فلسفيّة، ص 189

[22]- انظر، فوزية ضيف الله، “تأويلية إرادة الاقتدار عند نيتشه”، مجلّة مقاربات فلسفيّة، ص 183

[23]- انظر، فوزية ضيف الله، “تباشير فلسفة المستقبل عند نيتشه”، المؤتمر السنوي للجمعية الجزائرية للدراسات الفلسفية، “الفلسفة وسؤال المستقبل”، نوفمبر 2014، الجزائر، أفريل، 2015. منشورات 2015

[24]- نيتشه، هذا هو الإنسان، ترجمة على مصباح، بيروت، لبنان، منشورات الجمل، 2006، “مقدّمة”، الشذرة 3، ص 9

[25]- نيتشه، هذا هو الإنسان، “مقدّمة”، الشذرة 1، ص 7

[26]- نيتشه، في ما وراء الخير والشرّ، ترجمة جيزبلا فالور حجّار، مراجعة موسى وهبه، بيروت، لبنان، 2003، الفصل 3، الشذرة 212، “الفيلسوف وعصره”، ص 173

[27]-المصدر نفسه، الموضع نفسه.

[28]- نيتشه، هذا هو الإنسان، “مقدّمة”، الشذرة 3، ص 9

[29]- نيتشه، هذا هو الإنسان، “ما الذي يجعلني أكتب كتباً جيّدة؟”، الشذرة 1، ص 65

[30]- نيتشه، هذا هو الإنسان، “مولد التراجيديا”، الشذرة 1، ص 79

[31]- نيتشه، هذا هو الإنسان، “ما الذي يجعلني أكتب كتباً جيّدة؟”، الشذرة 1، ص 65

[32]- نيتشه، هذا هو الإنسان، “فجر”، الشذرة 2، ص 107
____________________
*المصدر: “مؤمنون بلا حدود”

شاهد أيضاً

العولمة بين الهيمنة والفشل

(ثقافات) العولمة بين الهيمنة والفشل قراءة في كتاب “ايديولوجية العولمة، دراسة في آليات السيطرة الرأسمالية” لصاجبه …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *