السويدية «هيلينا بوبيرغ» في «صُدود» يضمر الحُبّ!


*محمد العباس

النص كائن بيولوجي لا ينمو بنمو العبارات والتراكيب اللغوية وحسب، بل بما تفصح الذات الكاتبة عن وعي بموضوعها، وقدرتها على توطين الأفكار والمشاعر في سياقات النص، بمعنى أن للنص استراتيجية مفهومية وأسلوبية للتأثير على القارئ، وهذا ما يمكن تقصيه من حالات التصعيد التعبيري التي أسست لبنائية النص في المجموعة الشعرية «صُدود» الصادرة عن دار ميريت للنشر والمعلومات بترجمة عن اللغة السويدية لإبراهيم عبدالملك، من خلال كتابة صوتية، على اعتبار أن ما تنسجه الشاعرة هيلينا بوبيرغ من تصويرات شعرية وانطراح شفاف للذات، ما هو إلا حالة من حالات الإصغاء لصوتها داخل النص، الذي يتشكل في ثالوث: الكلام، اللغة، الكتابة، بما هي مراتب سلطة الصوت التي تموضع الذات ما بين الوعي والحضور.

في بداية المجموعة تبدو تعبيرات الشاعرة قريبة من (الكلام) الاستعمالي الشفاهي، متمركزة حول الصوت، وشيئاً فشيئاً تظهر مفردات أكثر نضجاً واحترافاً في التعامل مع مفهوم النص، حيث يبدأ الحديث عن (اللغة)، إلى أن تكتمل دائرة الوعي والتعبير الفني فتعلن (الكتابة) عن حضورها، باعتبارها أرقى أدوات التعبير الإنساني، وهي حضورات لم تترتب بالصدفة كما يبدو، إنما توالت بهذا الشكل الهرمي نتيجة لكون المجموعة حالة سيرية، تنسرد فيها الذات بشاعرية رهيفة، كما حدثت وفق خط بياني تصاعدي من الوجهة الشعورية والتعبيرية، وبالنظر إلى أن الكتابة كأداء ذهني منظم لا تنفصل عن طهورية الصوت، الذي يمكن التقاط رنينه في سياقات النص،
على هذا الأساس تبتني هيلينا سلطة صوتها، فترتد إلى غبطة البدايات لتتحدث عن إعاقة مجازية مزمنة حجبتها عن الحضور بسبب عجزها عن الكلام/التعبير (في طفولتي مُنعت الكلام)، وربما لهذا السبب أرادت الاستطراد والشرح كمنطلق لتحرير لسانها (الأمر بسيط/ الكلمات لا تأتي إليّ)، حيث ترسم لنفسها صورة طفلة محكوم عليها بالصمت (أتجولُ وفمي مطبق/ لا أتكلم أكثر)، وكل ما كانت تحلم بها آنذاك أن تقول كلمة (لا) كإشارة للعصيان وإثبات الذات (أن أقول لا لأمي/ هذا استثناء)، أو كما تصف حالها (قلق أديمي؟/ أن أقول لا/ كثلعب في فخ/ يقضم أطرافه)، وكل ذلك أدى إلى نسيانها لأبجديات الكلام (الفم شارد/ لا أستطيع التهجي)، ودخولها في حالة من الاستسلام، لتستعيض عن الكلام بالبكاء (أواصل بكاء علنياً).
هكذا تزدحم مداخل مجموعة «صُدود» بالمفردات الدالة على وجود ذات غائبة نتيجة العجز المجازي للسانها عن النطق، إذا ما تم الاحتكام إلى مفهوم العلامة اللغوية، فهي ساكتة على الدوام كتمثال (يحتوي السكوت كل شيء)، وهي مقهورة لكون (السكوت جار)، وصامتة لكأنها داخل إغفاءة أبدية (لا أقدر أن أمثل نفسي/ ألاقي النوم صامتة)، بل غارقة ومستعذبة لحالة الصمت (تمضي عدة أشهر/ يمكن احتمال الصمت)، خرساء كقديسة آثمة (أن يخرسك العار)، وكلما أرادت أو حاولت الكلام (تهرب الجملة)، ولذلك تحدث نفسها بمونولوج داخلي (يجب أن أتذكر التواصل)، وتكرر هذه العبارة في أكثر من مفصل، لتستشعر وجودها وتجس آدميتها، ثم تحاول التنويع على ذات الفكرة من منطلق الرغبة في الكلام (يجب أن أذكرني بأن أتكلم).
وهنا يبرز بعد على درجة من الأهمية في ما يتعلق بالنمو البيولوجي لذاتها ونصها، فهي تريد أن تنطق ولكنها لا تريد أن يكون منطوقها أقل مما تستشعره، حيث تفصح عن قلقها بعبارة دالّة (لا أريد التفوُّه بما لا أهمية له)، ولذلك ظهرت مفردة اللغة كقفزة تعبيرية (ليس للغتي ثقل)، بمعنى أنها غير واثقة من أدوات حضورها وتعبيرها، وهكذا صارت ترددها كمن يتلذذ باكتشاف نبع جديد لتمثيل الذات (تستنفدني اللغة/ الأمر محرج)، وتواصل في التلويح بها (هذه لغتي)، لتدخل في تداعيات اللغة ذاتها فتتحدث عن المعنى بما هو نتاج اللغة (لا يمكنني أن أقتبس نفسي/ بصماتي تفتقر إلى المعنى)، بل ذهبت إلى ما هو أبعد من ذلك لتقترب من حافة النص (الموضوعة لا تُحتمل/ لم يكد النص يُفتتح)، وكأنها على وشك التماس مع النص بالمعنى الأدبي بما هو وحدة لغوية مهيكلة، أو بنية متماسكة ذات نسق داخلي تربط بين عناصره علاقات منطقية ونحوية ودلالية.
كل ذلك كان يجري بما يشبه الحوار الذاتي، حيث تتساءل باندهاش (كيف تنمو اللغة ثم لا تنمو)، إلى أن تدخل بنصّها في دوامة الحبّ، وهذا هو ما حتّم أن يكون كلامها جسداً منطوقاً، كما بدا من الحالة التصاعدية للتعبيرات، وهنا استوجبت (الكتابة)، الأمر الذي استدعى وجودا آخر، أي قارئا ضمنيا يسمح بتوطين المعنى الشفاف في سياقات النص، حيث تبدأ الشكوى من العجز عن الكتابة ذاتها (أبكي لأنني لا أقوى على التعبير/ أبكي لأنني لم أكتب أبداً)، لكن الآخر/المخاطب سرعان ما يظهر (لا أحبك حين أكتب)، وكأن الكتابة تعني مثلنة ذلك المعشوق بكلمات مكتوبة والتجادل معه (ولقد فكرت بأن عليّ تركك حتى أكتب مرة أخرى)، أي تغييبه بمقتضى حيلة تمويهية لاستئناف الكتابة، بما هي ـ أي الكتابة – حاجة عضوية بالنسبة لها، أو هذا ما صارت عليه، لدرجة أنها قررت شيئاً من هذا القبيل (يجب أن أتركك حتى أكتب مرة أخرى).
هكذا صارت تعيش قلق وجودها من خلال إصرارها على الكتابة، وجس أثر ما تكتب في حبيبها الآخذ بالتشكُّل من خلال الكلمات، وكأنها تنشحن بالمعنى من خلال تمثُّلاته، وبالتالي فهي تدوزن خطابها الشعري على مقاسات غيابه (أقرأت مرة ما كتبتُ؟)، إنها لا تتساءل هنا بقدر ما تبعث لنفسها إشارات الطمأنينة لتصد نوبات القلق (أنت الوحيد الذي كلمني عما كتبت/ الحديث معك صعب كما الموت)، لتستمر في الاتجاه ذاته، أي إلى شخص يعنيها وتحاول إخراجه من تمثاليته (لا تريدني أن أكتب أكثر). 
ولأنه يمثل النواة الصلبة لنصها، أو ما يُعرف بالخلية المفسرة، تستدعي جملة من الدلالات المتضاربة، ابتداء من عنوان المجموعة «صُدود» الذي ينكتب حُبًّا في مضمرات النص، لأنها لا تقول الحقيقة بحوافها الواقعية الحادة بقدر ما تصنع حقيقتها النصّية، فهي تستصرخه عبر الكتابة (تطلب مني التوقف عن التدوين/ لا تريد أن أكتب أكثر/ كتابتي لا تعني شيئاً)، إلى أن تفصح عن مغزى وجدوى الكتابة عندها كمعادل لحالة الحب (أن تكتب أنك تحب أمرٌ لا يعني شيئاً/ لا أملك شيئاً/ أنا أعبدك)، وهي في هذا المفصل تطرح الكتابة بكل ما تختزنة من دلالات الحركة الجسدية والتموضعات الشعورية وابتناء المواقف الفكرية.
وفق تلك التوأمة ما بين الحب والكتابة ترمي في سياقات النص بشظايا إحساسها بالكتابة كمرايا شعورية مبعثرة (تبدو الكتابة غريبة/ عجز غير مريح)، ولا تتردد في إعلان مخاوفها من عدم الانكتاب (تتركني الكتابة)، على اعتبار أن الكتابة هي الممر السري لانفلات روحها من عتمة مناجاة الذات باتجاه ذلك الآخر المنصرف عن أنينها، وهي الإمكان الفني لاستدخال المعنى الذي تريد الإبلاغ عنه داخل صوتها (أسمح لنفسي بالكتابة أول ما أسمح حين/ يبلغ بي الكبت مبلغاً/ أفقد معه السيطرة تماماً/ لذلك لا تطيق ما أكتب)، فهي تعلم أهمية أن تنطق وأن تكتب (لا أتضرع/ لا أكتب/ لا أطيق/ الكلمات الشاقات طريق الخروج مني/ ممنوع أن أكتب عن الورود/ الجروح/ يصيبني ذلك بالنقص/ يبكيني خزياً)، ولذلك تتوسله أن يفهم ما معنى الكتابة بالنسبة لها (الكتابة عن الوردة هي القول/أريد أن أكون محبوبة/أطالب بأن تحبني/بنرجسية ورفعة)، وبمنتهى اليأس منه ومن جدوى ما تكتبه تعلن استسلامها (الكتابة تعني خسارة وجهة النظر).
الحب هو الذي أخرجها من حالة الصمت إلى الكلام إلى الكتابة كفعل وجود (أنت تتضاعف فيّ وتجبرني أن أعود فأكتب)، وهو الذي ولّد عندها كل تلك الكثافة التصويرية، وأنتج كيانها الجديد كجسد ناطق (كم تعقّد أسلوبي بمرور الوقت/حتى اعتقدت أنه صار جزءاً من شخصيتي)، وهكذا صارت تنظر إلى نفسها، وتختصر حضورها في كتابة هي صورة واقعية منصّصة (نصي بسيط/ رمادٌ يرفع من رماد)، مع إصرار صريح وقوي على الكتابة لاستبقاء الحبيب واستدامة حالة الحب الضائعة (أريد أن أكتب عن الأذى الصغير الذي يجلبه كل لقاء)، إذ لا تتخيل أن يكون لها أي وجود خارج الكتابة، بل تتصور نفسها وقد دخلت في طور من أطوار التوحش نتيجة انعدام الحب والكتابة (فكرة الكف مستقبلاً عن الكتابة/ تدفعني للرغبة في القتل).
_____
*القدس العربي

شاهد أيضاً

فصل من سيرة عبد الجبار الرفاعي

(ثقافات)                       الكاتب إنسان مُتبرع للبشرية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *