* إبراهيم غرايبة
يجتهد كثير من الدعاة والباحثين في المجال الديني لأجل بناء موقف فكري أو عقدي من قضية أو مسألة، وعندما تقتنع بها يصبح مطلوبًا منك أن تلغي عقلك وتمضي وراء رواية غير عقلية، ويمكن على سبيل المثال ملاحظة مئات الرسائل الجامعية والكتب التي بذل في إعدادها مجهود بحثي كبير، ولكنها تهدف لبناء موقف غير عقلاني أو لتعطيل العقل وإقناع الناس بأنّه لا محل للعقل في المسألة، ذلك أنّه “وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرًا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم”.
ويتعرض الناس إلى عملية “قصف عقول” واسعة ومدبرة باتجاه أمرين تعطيل العقل والفكر، أو إدراج مسائل وأفكار في العقائد والإيمان، ثم تتحول بعد تأصيلها وتقعيدها إلى عقائد لا يجوز مخالفتها بل وتدخل مخالفيها في الردة والكفر،.. هكذا كرست مسائل الحكم والحاكمية والولاء والبراء والتشريع والجهاد والمواطنة والدولة والأنظمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية “الإسلامية” في التعليم والإعلام والفن واللباس والطعام والعلاقات الاجتماعية، وتكون مهددًا في كل مخالفة (حسب التأصيل والبحث) بأن تكون معرضًا لخلل في عقيدتك وإيمانك، أو أنّك لم تحكم بما أنزل الله، وينطبق عليك بطبيعة الحال “ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون”، وينقسم العالم إلى قسمين “حكم الله” و”حكم الجاهلية”، فما لم يكن من حكم الله فهو حتمًا حكم الجاهلية.
ويجب القول إنّ هناك رسائل جامعية نوقشت في كليات الشريعة في مختلف الجامعات في دول عربية عدة ومنها الجامعة الأردنية تؤصل لمواقف مفاصلة وتكفيرية مع الدولة والمجتمع، وحصل أصحابها على أعلى الدرجات العلمية بقرار الحكومات “الجاهلية” وسلطتها التي لا يجوز المشاركة فيها!
يبدأ التأسيس لهذا الانفصال بدمج الإنساني بالديني بدلاً من فصلهما، ويا لها من حالة معقدة تقترب من الكارثة، الانفصال الديني والاجتماعي غير المطلوب والذي ينشئه الدمج “غير المطلوب” بين الإنساني والديني.. الدمج المنشئ للانفصال! عدم الرغبة بالتمييز بين ما هو من عند الله وما هو من عند البشر “ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله”. ويجب تكرار القول إنّها حالة أنشأتها المؤسسات الدينية الرسمية عبر قرون طويلة وهي تقدم نفسها للناس وصية على الدين فتلبس عليهم دينهم، واليوم تدفع السلطات الدينية والسياسية كما المجتمعات أيضًا ثمنًا كبيرًا لهذا التحريف للدين.. فالجماعات المتطرفة في واقع الحال تشبه فيروسًا يعمل داخل النظام نفسه وفق قواعده التي وضعها النظام نفسه!
يصدق الإنسان بقلبه، ولا سلطان في ذلك لأحد عليه، فالإيمان مسألة خالصة بين الإنسان والخالق، ولا يمكن إجبار أحد على الإيمان أو عدم الإيمان (أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين) ولا يجوز محاولة إجبار أحد أو محاسبته على الإيمان، ولكنّا نفهم الدين ونطبقه بعقولنا وما لدينا من معرفة وإدراك، وفي ذلك فإنّ عمليات فهم الدين وتطبيقه هي إنسانية بما في ذلك من خطأ أو صواب، موضوعية أو انحياز، هوى أو نزاهة، خبرة وذكاء أو نقص معرفة وذكاء… هي معرفة وتجارب إنسانية ليست مقدسة حتى لو أطلقت أحكامًا بالحرام والحلال والمكروه والجائز فإنّها أحكام ليست من عند الله، ولكنّها إنسانية مشوبة بقوة الإنسان وضعفه، وتتعرض على نحو دائم للمراجعة والتصحيح والتغيير، وليست مقدسة، حتى وهي صواب، وليست خروجًا من الدين، حتى وهي خطأ.
الذين يصدقون أنّ القرآن وحي من السماء نزل به الروح الأمين على قلب محمد ليكون من المنذرين، لم يثبتوا ذلك في المختبرات ولا يملك أحد من الألف وسبعمائة مليون مسلم وثائق مادية صحيحة أو أدلة علمية ومخبرية على صحة نزول القرآن بل وسنده من الرسول إلينا.. لا نملك إلا أن نصدق وكفى! وكل ما تقوم به السلطات السياسية والدينية بعد ذلك لا يجوز أن يتعدى احترام هذا التصديق وخصوصيته وحمايتهما، وأما أحكام الردة وما يتعلق بها من حقوق وواجبات فإنّها وصاية على الدين والناس لم يأمر بها الله، العكس هي اعتداء على ربوبية الله وادعاء للألوهية والربوبية لم يأذن به الله.
والدول الحديثة بما هي تنظيم سياسي للإقليم وعلاقة الناس به وبالسلطة، تقوم على المواطنة والعقد الاجتماعي بين المواطنين والسلطة والمؤسسات السياسية والاجتماعية والاقتصادية وبين بعضهم بعضًا، وهو تطور إنساني تبلور في القرن السابع عشر (معاهدة وستفاليا 1648)، وبدأ للمرة الأولى يأخذ أبعادًا تطبيقية واقعية عام 1688 في بريطانيا، ثم في الولايات المتحدة عام 1776، وأنشأ قواعد جديدة للسلطات والعلاقات الدولية تقوم على الولاء الوطني وليس الديني وسيادة الدول على أقاليمها، ورفض التدخل في شؤون الدول؛ ما يستبعد تنظيم أو تغيير تنظيم علاقة المواطن بدولته أو العلاقات الدويلة على أسس دينية[1].
وما يقدم بعد ذلك من فقه سياسي “إسلامي” هو محاولة لاستيعاب التقدم الإنساني ومطابقته أو محاكمته إلى الإسلام، ولا بأس في ذلك على أي حال، ولكنه ليس إيمانًا ولا كفرًا ولا حلالاً ولا حرامًا، وأما أحكام الردّة المطبقة في قوانين الدول العربية والإسلامية وتشريعاتها في الشهادة والزواج والحضانة والميراث مما لم يرد في القرآن؛ فهي تطبيق حرفي للتوراة[2] درجت عليه السلطات السياسية والدينية منذ قرون عدة والتبست على أصحابها وعلى الناس بأنّها من الإسلام، ومن الطريف جدًّا أنّ المؤمنين بها من المسيحيين واليهود لا يطبقونها.
أن يكون الفهم والتطبيق إنسانيًّا يعني ذلك بالضرورة تعددًا في الأفهام يساوي عدد المؤمنين، وفي هذه التعددية الهائلة لا مجال عمليًّا إلاّ للفردية الخالصة في الإيمان والعبادة والعلاقة بالخالق، فلا شأن لأحد بها ولا سلطان لأحد عليها، ويقتضي ذلك بالضرورة أنّ ما يتعدى الفرد إلى المجتمع والسوق والسلطة لا يمكن إدارته أو تنظيمه إلاّ برده إلى الإنسان، حتى أولئك الذين يؤمنون بتعاليم نزلت من السماء لتنظيم الحكم والأسواق والقوانين فإنّه لا مجال لفهم ما يؤمنون به ويدعون إلى تطبيقه سوى مجهود عقلي إنساني، وفي ذلك سوف تتعدد الأفهام والآراء ما يحتم اللجوء إلى أدوات إنسانية في الاختيار، ما يعني بالضرورة أنّها قابلة لأن تكون خطأً وأنّها صواب، أو ربما تكون صوابًا أو أقرب إلى الصواب في اللحظة الراهنة فقط وبما هي تحظى بتأييد الأغلبية، وفي اللحظة التي تفقد فيها تأييد الأغلبية لا تعود صوابًا، لا لأنّها خطأ أو صواب، أو لأنّها كانت صواباً وصارت خطأً أو كنا نظنها صوابًا وتبين أنّها خطأ، ولكن لأنّنا نقر أنّنا لا نعرف الصواب ولا نملك سوى البحث الدائم عنه.
كيف يتعصب قوم ويقاتلون ويموتون لأجل فكرة ربما تكون خاطئة أو لا يعرفون إن كانت صوابًا أو خطأً؟
لا بأس بالدفاع عن فكرة أو قضية، أو الإيمان بها، أو حتى الموت من أجلها، ولكن لنحاول أن نجعل فرصة لتصحيح الأخطاء أو التراجع عنها، أو على الأقل لتكن قضية تستحق أن نقاتل أو نخسر لأجلها!
[1] معاهدة وستفاليا 1648 عقدت بين الدول المتحاربة في ذلك الوقت مثل حرب الثلاثين عامًا (1618 – 1648) واشتركت فيها القوى الأوروبية القائمة عدا روسيا وانجلترا، وحرب الثمانين عامًا (1568 – 1648) أو حرب استقلال هولندا عن الإمبراطورية الإسبانية، وأرست المعاهدة مجموعة من المبادئ التي أنهت صراعات طويلة ودامية في أوروبا وأسست لمبادئ الدولة الحديثة والعلاقات الدولية، وحيدت الدين والمؤسسات الدينية في تنظيم المواطنة وسيادة الدول والعلاقات الدولية. أنظر على سبيل المثال: معاهدة وستفاليا نقطة تحول في تاريخ أوروبا/wol.jw.org/ar/wol/d/r39/lp-a/2004205
معاهدة وستفاليا ومبادئ العلاقات الدولية 30dz.justgoo.com/t1684-topic
العلاقات الدولية: دراسة تحليلية في الأصول والنشأة والنظريات/ علي العقابي
[2] جاء في سفر التثنية إصحاح 13
إذا قام في وسطك نبي أو حالم حلمًا، وأعطاك آية أو أعجوبة، ولو حدثت الآية أو الأعجوبة التي كلمك عنها قائلاً: لنذهب وراء آلهة أخرى لم تعرفها ونعبدها فلا تسمع لكلام ذلك النبي أو الحالم ذلك الحلم.. وذلك النبي أو الحالم ذلك الحلم يقتل.
وإذا أغواك سرًّا أخوك ابن أمك، أو ابنك أو ابنتك أو امرأة حضنك، أو صاحبك الذي مثل نفسك قائلاً: نذهب ونعبد آلهة أخرى لم تعرفها أنت ولا آباؤك من آلهة الشعوب الذين حولك، القريبين منك أو البعيدين عنك.. فلا ترض منه ولا تسمع له ولا تشفق عينك عليه، ولا ترق له ولا تستره، بل قتلاً تقتله. يدك تكون عليه أولاً لقتله، ثم أيدي جميع الشعب، ترجمه بالحجارة حتى يموت.. فيسمع جميع إسرائيل ويخافون، ولا يعودون يعملون مثل هذا الأمر الشرير في وسطك.
إن سمعت عن إحدى مدنك التي يعطيك الرب إلهك لتسكن فيها قولاً قد خرج أناس بنو لئيم من وسطك وطوحوا سكان مدينتهم قائلين: نذهب ونعبد آلهة أخرى لم تعرفوها وفحصت وفتشت وسألت جيدًا وإذا الأمر صحيح وأكيد، قد عمل ذلك الرجس في وسطك فضربًا تضرب سكان تلك المدينة بحد السيف، وتحرمها بكل ما فيها مع بهائمها بحد السيف، تجمع كل أمتعتها إلى وسط ساحتها، وتحرق بالنار المدينة وكل أمتعتها كاملة للرب إلهك، فتكون تلاًّ إلى الأبد لا تبنى بعد.
_____
* عن “مؤمنون بلا حدود”