عبد الله الطوخي وفتحية العسال: الحب قلب النضال


*محمد ولد محمد سالم


لم يمكن يخطر ببال تلك الفتاة الصغيرة المسماة فتحية العسال أنها ستكون كاتبة تقدمية ومناضلة من أجل حقوق المرأة، فقد عاشت طفولتها ومراهقتها إلى أن تزوجت وهي فتاة عادية لا تحمل أية طموحات سياسية وثقافية، وربما لا تفكر في أكثر من أن تكون زوجة وأمّاً لأطفال تربيهم وتحن عليهم حتى يكبروا، لكنّ زواجها بمناضل حقوقي يساري غير حياتها، واتجه بها في مسار آخر غير الذي كانت عليه.
كان ذلك في بداية الخمسينات من القرن الماضي، حيث أعجب الشاب المحامي خريج كلية الحقوق عبد الله الطوخي بتلك الفتاة الصغيرة، فتزوجها، وكان النشاط السري للحركة الشيوعية يتصاعد، ما جعل قيادة ثورة 1952 يوليو تشن عليها حملة قمع شديدة، وتعتقل رموزها، ويسجن عبدالله الطوخي من بين من سجنوا، فتواجه زوجته الفتاة أول تجربة قاسية في حياتها، لكنها تخوضها بقوة وشجاعة، ومن خلالها تضع قدمها على أول طرق النضال وتحمل المسؤولية، حيث أصبحت الناطقة باسم زوجات السجناء، وعلى مدى عامين قضاهما زوجها ورفقاؤه في السجن، كانت تروح وتغدو إلى السجن لتوصل الأكل واللباس والمستلزمات الأخرى إلى زوجها، وكان صوتها وهي تناديه من خلف قضبان السجن يبعث فيه الأمل ويعطيه القوة والجلد على معاناته، ويدفعه للتشبث بما يراه ويعتقده من مبادئ، وقد كتب الطوخي عن ذلك في سيرة حياته، فوصف المرة الأولى التي رآها فيها بعد دخوله السجن: «في تلك اللّحظة، إذا بي أسمع صوتها ينادي باسمي، فلم أصدّق، ولولا أنّي رأيت عيون الرّفاق كلّها تتوجّه لي، لظننت أنّي أحلم، هي ثانيةً، وتكرّر النّداء: عبداللّه، عبداللّه، انتفضت قافزاً من رقدتي، هي فتحيّة، وهو صوتها كرنين أجراس الحياة، وفي أقلّ من لمح البصر، كنت قد صعدت قافزاً على الحائط وأمسكت بقضبان الحديد»، كانت العسال هي أجراس الحياة التي تقرع له، فينهض من يأسه وأساه، ويتأكد أنه ليس وحده، وأن هناك من يدعمه، ويفكر في النعمة التي حظي بها بسبب ذلك الزواج الذي يعزز نضاله ويعطيه قيمة فوق قيمته.
كان الطوخي قبل سجنه قد بدأ تجربة الكتابة، وقد نشر قصة قصيرة له عام 1949، لكنه لم يكن بعد قد قرر التوجه إلى الكتابة الأدبية بشكل نهائي، وعند خروجه من السجن عام 1955 قرر أن يترك المحاماة ويتجه إلى الكتابة، فالتحق بالعمل الصحفي، وبدأ ينشر كتاباته في القصة والرواية والمسرحية، وقد وجد في فتحية العسال ذكاء وفطنة وعزيمة فحثها على التعلم، ولم يكن حظها منه كبيراً قبل زواجهما، فبدأت القراءة المكثفة، وعمق النضال الذي خاضته معه وعيها، وفتح عينيها على أشكال الظلم السائدة في ذلك الوقت، وخاصة ظلم المرأة، وقد عاشت هي نفسها تجارب منه في طفولتها ومراهقتها، وعانت سلطة أقاربها الرجال عليها.
كان الطوخي – كما قال عنه صديق عمره رجاء النقاش – مخلصاً في كل شيء، لا يعرف الخداع ولا الكذب ولا النفاق، واضح المبادئ، صادقاً في التعبير عنها، محباً للحرية والاستقلال في الرأي بعيداً عن التعصب الأعمى، ولذلك فقد قرر بعد خروجه من السجن الابتعاد والتنظيم السري للحزب الشيوعي، وبرر ذلك بأن الكاتب ينبغي أن يكون حراً في أفكاره، وألا تفرض عليه أية جهة أخرى أفكاره أو قراراته أو تحدد له تصرفاته، وقد كانت فتحية العسّال التي نضجت أفكارها في رعاية الرجل الملتزم أخلاقياً وفكرياً مهيأة لاكتساب تلك الصفات، فأخذت عنه التصميم والإخلاص والصدق مع الذات، ما دفع بنضالها من أجل المرأة إلى الأمام، وجعلها صريحة وجريئة في التعبير عن ما تعتقده، تلك الصفات التي تعلمتها هي نفسها التي ستكون سبباً في طلبها الطلاق منه، فقد أحست في لحظة ما في نهاية السبعينات وفي فترة عنفوانها النضالي من أجل المرأة أنه يعيق نضالها، ويريد أن يفرض سلطته عليها، فطلبت منه الطلاق، لكنّ فترة فراقهما لم تدم أكثر من ثلاث سنوات التقيا بعدها في ظروف نضالية، بمناسبة توقيع المثقفين المصريين على وثيقة ضد اتفاقية كامب ديفد، فاكتشفا أن الحب الذي ربط بينهما وأنجبا فيه أبناءهما لا يزال قوياً، فتزوجا مرة أخرى.
_______
*الخليج الثقافي

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *