عبير اسبر
إن كنت ممن يبحثون في القصة القصيرة عن التماعات تومض في الذاكرة، أو حبكات ملتوية تقود مخيلتك في اتجاهات متعاكسة، فذاك لن تجده في قصص تشارلز بوكوفسكي. لأن عالمه السهل، غير الموارب، منقسم بحزم بين شيئين فقط، السلطة وبهلوانيها، الشرطة والقوادين، الصاحين والسكارى، «الرجل التافه» الذي يملك مالا والعاهرة الجائعة، وبين الأغنياء والحزانى. عالمه القصصي، واضح وضوح الغريزة، إن عطشت تشرب، إن جعت تأكل، إن اشتهيت تضاجع، حتى لو ضاجعت دجاجة ميتة، أو جثة أنثى جميلة، أو جسدا لطفلة في الخامسة اغتصبها سكير من دون سبب وجودي إلا العدم.
في قصصه «أجمل نساء المدينة» (*) لن تحزر كم تتكرر ذات المفردات المتعلقة بالممارسات الجنسية للقاع، القاع البشري لأفراد بلا أخلاق، أو آلهة، يتحركون في سكر دائم، من دون بوصلة شعورية، أو أمل ما، تتكرر اللغة المخلّة بالذائقة المحافظة، حتى تفقد تلك اللغة دهشتها، بهاءها، أو روح الجاذبية السحيقة للبذاءة التي تسبب بشكل مخزٍ، اللذة في حدها التصريفي الأدنى، فالمفردات التصويرية «البورنوغرافية»، والشتائم، والوصف التشريحي للأجساد في عريها وشهوتها، لا تثيرك، بل تشعرك بالغمّ فقط، وبضيق العالم، بضيق المساحة التي يحتلها الفرد في هذا العالم، لأن عند بوكوفسكي «الكون» يشكل كومة من الفضلات، ليست فضلات طعام فقط، بل فضلات لأفكار وقيم بائتة، ميتة بلا روح.
بوكوفسكي كتب في «أجمل نساء المدينة» بما يشبه السيرة عن صراعاته مع المفاهيم الأميركية عن كل شيء، فهو لم يغادر لوس انجلوس، وتسكع على جادات هوليوود، حضر ثورات الجنس واحتفى بروح الهبيين، بحشيشهم، وسخر منهم أيضا، هو الغاضب من روحه التعبة، من غرائزه التي لا تتوقف عن التشهي والتطلب، من تقدمه بالسن، ومن إدمانه الذي بطحه دائما كفرس سباق متقاعد، يتصارع هنا مع دور النشر، مع النقابات العمالية، مع المباحث والإف بي أي، مع الوجه النظيف المعقم للحياة، مع المنظرين للحروب، ومدعي الوطنيات، يتصارع مع العاهرات البشعات، والرجال القبيحين، مع المستقيمين والمثليين. العالم الذي يأتيه بوكوفسكي من باب واحد هو الجنس يلخص كل دنياه، ويسكر بإحكام الأبواب الأخرى لقراءة العالم، هو السكير متبلد الحس، القذر، الشهواني، مدمن الأجساد، مدمن الحكايات عن البشر في لحظات إنهاكها وانتهاكها، يفيق بين الســطور ليناقش الأفكار الكبرى، قد يحاكمها حيـناً بتروي رجل عاقل، وقد يبصق عليها كمعتوه ويهزها، ويزلزل كيانها بعدمية أصيلة، مخلصة لغاياتها، والغاية من عدمية بوكوفسكي أن تشبع غرائزه حتى الفناء.
الشاعر الذي ترنح طويلاً بين النثر والشعر، لم يفصل كثيرا بين العالمين، وحسم خياره مرة لمصلحة الشعر، في جملة قد تصيب الروائيين والقصاصين بالخيبة يطلق بوكوفسكي في قصة اسمها «ولاة وحياة وموت صحيفة سرية» تصريحا أخاذا: «الشعر يقول أكثر من اللازم في أقل وقت ممكن، النثر يقول أقل من اللازم، في وقت أطول».
لكن برغم تصريحات قاتلة كهذه، يظل في روح تشارلز بوكوفسكي مكان للحكي، وللقصص، الطفل الذي دمره أب سكير، وكان يعنفه بضرب مبرح، دونما حماية من أم خنوعة، أدرك قوة المخيلة في وقت مبكر، في العاشرة كتب وأعاد تأليف العالم وتشكيله على صورة ومثال يرغب بهما، عندما حرمه والده «المرير» من رؤية رئيس أميركا، أحس أول مرة بالسلطة العجائبية التي تمنحها الكتابة حين مارسها، فكتب قطعة نثرية عن زيارة للرئيس لم يحضرها، بل استعان بمخيلته عوضا عن الرؤية، وروى تفاصيل زيارة الرئيس هوفير للمدينة التي يسكنها في قطعة نثرية قرأها في مدرسته الابتدائية، لصف مفتون بموهبته. وسيبقى كل من سمعه بعدها مفتوناً، حتى وصوله بتلك الموهبة بعيداً.
لا يستطيع من يقرأ تشارلز بوكوفسكي إلا أن يشعر «بالمرح الفاقع» كما أسماه، فضمن سلسلة من مشاجرات الحانات، والسباب، الخيانات العلنية، والاتهامات بالعنانة، والشبق معاً، وبقلب مغامرات الطرد من غرف قذرة مستأجرة وبارات مرتجلة، تحصل الحكايات ضمن سياق مبتذل سوقي مريح من بروتوكولات مجتمعية لطالما هرب منها بوكوفسكي مع نسائه المختارات، ومع كل ذلك الأسى والعدم فإننا نلمح ومضات من حزن، وانتظارا لدفء ورحمة يتوق بوكوفسكي لدفن روحه وجسده فيهما، كي يمحى توقه للحب الذي خيبه وخاب معه.
في التــجارب الكتابية المتكســـرة كتلك التي نقـــرأها مع بوكــوفسكي، فإن كل قطــعة في فسيفساء النص تجــرحك، وتستـــنزفك كالقهر، في نصوصه وحكاياته جمال جـــارح، حـــزين، ينزف في وعيك إلى ما لا نهاية.
السفير