*إبراهيم العريس
مرتان على الأقل، يعبّر المؤرخ والمفكر البرت حوراني، في واحد من آخر كتبه، «تاريخ الشعوب العربية»، عن فعل إيمان لا ينضب بالعالم العربي، ثقافته، حاضره ومستقبله. وهو يعبّر عن فعل الإيمان هذا بطريقة غاية في الإناقة والجمال. ففي التمهيد الذي يخص الكتاب، والذي يثير تساؤلات القارئ عن الجدوى منه حين يقرأ سطوره الأولى فيكتشف انه يتحدث فيه عن ابن خلدون، ثم يثير أعجاب ذلك القارئ بقدرته الفائقة على عرض حياة ابن خلدون وأفكاره، في ذلك التمهيد يخيّل للقارئ أول الأمر أن البرت حوراني يستعين بصاحب «المقدمة» لتبرير أسلوبه هو نفسه في كتابة التاريخ، أو لكي يرسم صورة للكيفية التي مزج فيها ابن خلدون بين التاريخ وعلم الاجتماع، وبين حياته وأفكاره. ولكن ما إن يصل القارئ الى ختام ذلك التمهيد حتى يجد نفسه أمام «قلبة مسرحية» حيث يكتشف أن البرت حوراني ما أتى على ذكر ابن خلدون وتقلبات حياته وتنقله بين شتى الديار والمناطق العربية والاسلامية، إلا لكي يختم كلامه قائلاً في عبارات حافلة بألف معنى: «لقد كان ثمة، على أي حال، شيء مستقر أو يبدو على الأقل مستقراً. كان ذلك العالم الذي تتمكن فيه أسرة من جنوب الجزيرة العربية من الهجرة الى إسبانيا، والعودة بعد ذلك بستة قرون الى مناطق قريبة جداً من مسقط رأسها، من دون أن تبارح على الإطلاق بيئة مألوفة، كان ذلك العالم يشكل، اذاً وحدة تتجاوز حدود الزمان والمكان: في مجموع ذلك العالم كانت اللغة العربية تفتح أبواب أعلى الوظائف والمواقع المؤثرة، وكان متن معرفي يتنقل خلال قرون وقرون من طريق سلسلة من اساتذة معروفين، قادرين على الحفاظ على وحدة أخلاقية معينة، حتى حين كان الملوك يتبدلون، أما أماكن الحج في مكة والقدس، فكانت هي على الدوام القطب الثابت لكون بشري، حتى حين كانت الهيمنة السياسية تنتقل من مدينة الى أخرى، هذا في الوقت الذي كان فيه الايمان بإله واحد خالق الكون وحافظه قادراً على اعطاء معنى لكل صروف القدر».
> أما فعل الإيمان الثاني الذي عبّر عنه البرت حوراني في الكتاب نفسه فإنه يرد في الصفحة الأخيرة حيث يقول: «… وانه عن الممكن ايضاً انه خلال مرحلة معينة من مراحل النمو الوطني، يحدث لقوة الجذب التي تمثلها المفاهيم الدينية (…) ان تكف عن التفوق على منظومة فكرية أخرى هي مزيج من الأخلاقية الاجتماعية والحقوق العلمانية، مع العلم ان هذه المنظومة الأخيرة سيظل بإمكانها ان تستند الى المبادئ العامة للعدالة الاجتماعية التي يعبر القرآن عنها».
> ترى أفلا يمكننا ان نرى في هذين المقطعين ما يشبه الوصية يتركها لنا ذلك المفكر الذي رحل عن عالمنا في العام 1993، والذي، ولئن كتب مؤلفاته كافة بالانكليزية، يعرفه قراء العربية جيداً من خلال كتابه الأساسي «الفكر العربي في عصر النهضة» الذي كان، حقاً، الكتاب المؤسس لكل ذلك الاهتمام بعصر النهضة وفكره، الذي تجدد مع إطلالة سنوات السبعين. صحيح ان ذلك الكتاب لم يكن الأول في موضوعه، لكنه كان الأشمل والأهم، بين قلة من كتب تناولت عصر النهضة بالدرس والتحليل والربط بين الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والايديولوجي في بوتقة واحدة.
> ونحن لئن بدأنا هذا الكلام بالإحالة الى «تاريخ الشعوب العربية»، فإن «الفكر العربي في عصر النهضة» يبقى الأهم بين كتب حوراني، وذلك لأن هذا الكتاب حين صدر للمرة الاولى في العام 1962، كان موضوعه جديداً كلية على الساحة الثقافية الانكيزية – حيث صدر أولاً -، ثم على الساحة الثقافية العربية، حيث ترجم وتداوله المثقفون والقراء، ليدهشوا أمام توليفة فكرية تعيد الاعتبار الى كتب ومؤلفين ومناضلين سياسيين إذا كان القارئ قد أتلف معهم او مع اكثرهم من قبل، فإنه كان قد التقى بهم متفرقين، ربما تشكل حياة وأفكار كل واحد منهم، مغامرة على حدة. أما هنا فها هو القارئ يلتقيهم معاً، ليكتشف انهم يشكلون سلسلة مترابطة من مشروع فكري – قد تكون ولاداته المتلاحقة تلقائية، لكنها في «توليفة» حوراني، باتت متتالية وحلقات من مجموعة أفكار تبرر للمؤلف ان يفتتح الكتاب بقوله: «إن غايتي من تأليف هذا الكتاب ليس تدوين تاريخ عام، بأفكار متعددة، عبّر عنها العرب او كتبت بلغة عربية خلال القرن التاسع عشر او في مطلع القرن العشرين. كنت أُعنى بالفكر السياسي والاجتماعي في سياق معيّن: ذاك الذي أوجده التطور الأوروبي، تأثيراً وسلطة، في الشرق الأوسط وفي أفريقيا الشمالية…». وللوصول الى هذا يسرد المؤلف، في ما يتعلق بفترة زمنية تفصل ما بين 1798 و1939، ذلك التاريخ المرتبط بالفكر الاوروبي، كما وصل الى المنطقة العربية، وذلك بعدما مهد بدراسة تاريخية لمفهوم الدولة الاسلامية كما أتى في المراجع التأسيسية بدءاً من القرآن الكريم وصولاً الى الماوردي وابن خلدون ليتوقف بعد ذاك عند الامبراطورية العثمانية في فصل يعلن فيه الكاتب استناده الاساسي، انما السجالي، الى سابقين له في دراستها من أمثال برنارد لويس وهاملتون جب.
> وبعد هذين الفصلين التمهيديين يدخل حوراني في صلب موضوعه حيث يتناول الانطباعات العربية/ الاسلامية الأولى حول أوروبا، قبل ان ينتقل الى الحديث عمن سمّاهم الجيل الأول من مفكري «الحداثة» في اللغة العربية: الطهطاوي خير الدين التونسي وبطرس البستاني، من خلال حياتهم كما من خلال كتبهم. ويتلو هذا فصلاً كرّسه المؤلف كلياً لجمال الدين الافغاني، كاشفاً ان ما شغل بال هذا الأخير لم يكن الإسلام كدين، بل الإسلام كمدنية «فهي تعتبر ان الغاية من أعمال الانسان ليست خدمة الله فحسب، بل خلق مدينة انسانية مزدهرة في كل نواحيها».
وبطبيعة الحال يأتي الفصل المكرس لمحمد عبده، بعد فصل الافغاني، حيث يؤكد لنا حوراني ان «تفكير الإمام عبده، انطلق كالأفغاني من قضية الانحطاط الداخلي والحاجة الى البعث الذاتي (…) فالنبي محمد (صلى الله عليه وسلم) لم يُرسَل، وفقاً للنظرة الاسلامية السنّية، للدعوة الى الخلاص الفردي فحسب، وإنما لتأسيس مجتمع فاضل ايضاً». وعلى هذا النحو من التحليل يتابع حوراني مؤرخاً لـ «تلامذة عبده في مصر»، من مصطفى عبدالرازق الى قاسم أمين وصولاً الى أحمد لطفي السيد وأحمد فتحي زغلول وعلي عبدالرازق، قبل ان يخصص فصلاً بكامله لمفكري القومية المصرية، ليتوقف بعد ذلك عند محمد رشيد رضا، وصولاً الى طلائع العلمانية (مراش، وشميل وفرح انطون)، الذين يصل بعدهم الى دعاة القومية العربية، متوقفاً في النهاية عند طه حسين، ومن ثم عند بعض المعاصرين من أمثال جمال عبدالناصر وادموند رباط وكمال جنبلاط… وسيد قطب والطاهر حداد.
> يوم رحل حوراني كان في الثامنة والسبعين من عمره، مواطناً انكليزياً يراه الكثيرون مستشرقاً أكثر منه مؤرخاً عربياً. غير أنه، وهو المتحدر من أسرة لبنانية نزحت من مرجعيون في جنوب لبنان، لم يتوقف طوال حياته الاكاديمية والفكرية عن الاهتمام بالعالم العربي ولقد روى حوراني ان اهتمامه بعالم وطنه الأم بدأ العام 1936 مع لقائه الاول بالمؤرخ فيليب حتي، ومع اندلاع الثورة الفلسطينية، وهو منذ تلك اللحظة ساهم عبر عمل اكاديمي وتأليفي واسع ومتواصل في اعطاء القراء الآنغلوساكسون صورة مختلفة ومعمقة عن الوطن العربي وعن تراثه وفكره النهضوي. وفكره النهضوي بخاصة لأن البرت حوراني كان يعتبر نفسه، في المقام الأول، رجل نهضة وتلميذاً لذلك الرهط من المفكرين المناضلين المتنورين الذين أضاءوا ظلمات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين بإشعاع فكري وجد انعكاساته في كتاب «الفكر العربي في عصر النهضة» الذي كان من أبرز ما كتبه حوراني طوال حياته، التي وضع خلالها عشرات الكتب والدراسات وظل طوالها أميناً للفكر الليبرالي التنويري، قادراً على فهم الأحداث وتحليلها وربطها بأطرها الفكرية وأبعادها الذاتية والموضوعية، ولهذا اعتبر رحيل البرت حوراني في 1993 خسارة حقيقية للفكر التاريخي النهضوي العربي.
______
*الحياة