*ترجمة: أحمد عثمان
أصاب انتشار رواية «دكتور جيفاغو» الكاتب الروسي بوريس باسترناك باللعنة، ولكن النشاط الإعلامي لجهاز الاستخبارات الأميركي أدى إلى خلودها. فيما يلي إضاءة على وقائع القضية، من خلال كتاب جديد بعنوان: «قضية جيفاغو: الكرملين، السي آي ايه ومعركة الكتاب الممنوع» (مطبوعات ميشال لافون، 2015)، الذي تغذى على الأرشيف المهمل خلال الحرب الباردة، وشارك بيتر فين، رئيس تحرير «الواشنطن بوست» المختص بمسائل الأمن، وبيترا كوفيه في كتابته وتنسيق وثائقه.
في 29 أكتوبر 1958، لم يصدق محكمو أكاديمية ستوكهولم أعينهم، إذ رفض بوريس باسترناك، جائزة نوبل للآداب: «لأسباب متعلقة بهذه الجائزة التي تلقيتها من المؤسسة، أرفض مضطراً هذا الامتياز غير المستحق الممنوح لي». الكاتب الروسي، ذو الوجه الطويل المنحوت، ذو الشفتين المكتنزتين والنظرة المعتمة، التي وصفته الشاعرة مارينا تسفيتيفا، «بالعربي وجواده»، انتهى إلى الاستسلام. الحملة التي قادها الكرملين على روايته، «دكتور جيفاغو»، أنهكت هذا الرجل الضعيف صحيا. بصقت صحيفة «لا ليترارتورنايا غازيتا» على «المهاجر الداخلي جيفاغو، الورع والخسيس، (…) الغريب في عيني الشعب السوفييتي، الذي يحمل صورة باسترناك، النفاج الأدبي سيئ النية»، وتهكمت «البرافدا» على هذا «العمل الأدبي الرجعي»، وأشارت إلى أصوله اليهودية.
ما الذي ترويه هذه الرواية لكي تنتج كل هذه العداوة؟ ببساطة حكاية طبيب، فنان في روحه وباحث عن الحقيقة، بين الحرب العالمية الأولى، الثورة البلشفية والحرب الأهلية. هذه الشخصية التشيخوفية، التي خلدها عمر الشريف سينمائيا في فيلم ديفيد لين، التائهة بين جنون الناس والايديولوجيا، تنسحب من موسكو. يموت ويترك خلفه ديوانا من القصائد. يمثل صدور هذه الرواية الممنوعة في بلادها في الغرب، خلال الحرب الباردة، فعلاً من أفعال الخيانة. في العام التالي، الناشر الإيطالي فلترنلي، تحصل عليها، عبر خدمات رفيق إيطالي يعمل في راديو موسكو، وترجم المخطوطة في 433 صفحة على الآلة الكاتبة، في ظروف عجيبة لا تصدق. صدرت الرواية بداية في روما في 15 نوفمبر 1957، وبعد سبع سنوات في باريس، مترجمة إلى الفرنسية.
بيد أن هناك ناشرا قام بدور كبير في الظل، وعمل على توزيع الرواية، وبالأخص في البلد/ العدو، في الاتحاد السوفييتي: السي آي ايه. امتد جهد الوكالة حتى عام 1991، عبر واجهات مكتبية وتواطؤ بعض الشيوعيين السابقين والتروتسكيين الجاهزين للدخول إلى اللعبة. خلال هذه المرحلة بأكملها، وزعت إحدى هذه الواجهات/ المؤسسات، «بلفورد بابليشنج كومباني»، أكثر من مليون نسخة، عاملة على تعريف الروس بأورويل، نابوكوف، جويس..
كمتهم «بالخيانة»، لا يمكن أن يكون باسترناك إلا مطروداً من اتحاد الكتاب. ومع ذلك، الانضمام إلى هذه النقابة، التي تضم 4000 كاتب، تمنح بعض المزايا غير المعقولة للروسي العادي: بيت ريفي وموارد مادية، مستحقات وحقوق المؤلف. كان باسترناك يربح حياته من ترجمة شكسبير وجوته، ويشكل النصير بقوة للمسيحية ،وعلى غرار تولستوي، لم يكن سياسيا، وإنما كائنا أخلاقيا بامتياز. مع تطور الأدب البروليتاري، أصابه الاكتئاب فالتقزز. ابتعد. وعلى سبيل الانتقام، تم تمزيق نصوصه وألغيت عقوده. لم يستسلم. صديقاه بيلينياك وبابل اغتيلا. لم يستسلم أبدا، وتدخل لتحرير بعض سجناء الغولاغ، وساعد أهلهم. طولب بالتوقيع على عريضة ضد آندريه جيد، رفض. مصير باسترناك، هو نفسه مصير الكاتب في النظام التوتاليتاري السوفييتي: العزلة. لم تكن رواية «ذوبان الجليد» لاليا اهرنبورغ، التي صدرت في 25 فبراير 1956، بوساطة سيد البلاد الجديد، نيكيتا خروتشيف، بعد التقرير السري للمؤتمر العشرين الذي فضح جرائم ستالين… لم تكن إلا الومضة. كل الجهاز القمعي السوفييتي، وعلى رأسه اللجنة المركزية للحزب الشيوعي، أطلقت حممها منذ أخذت «قضية باسترناك» تنحو منحى عالميا. تم دفن «بوريا» (الاسم المحبب لبوريس لدى أصدقائه) في 30 مايو 1960، بعد عام ونصف من إعلان حصوله على نوبل. في الموكب الجنائزي، حمل كاتبان وعدد قليل من المريدين التابوت. اسم الكاتبين آندري سينيافسكي ولوري دانيل. كانا رأس حربة الجيل الجديد من المنشقين، الذي عمل على توزيع النصوص الممنوعة في الغرب.
______
*الاتحاد