*مسفر بن علي القحطاني
تتداعى الأسئلة إلى ذهن كل متابع لما يدور في منطقتنا العربية من تحولاتٍ شديدة السرعة والقوة تشمل الاقتصاد والاجتماع والفكر. وحتى الجغرافيا الصلبة منذ عقود بدأت تلين خطوطها المنقطة لتعيد رسم الحدود في شكل يخندق العلاقة بين المكونات الوطنية نحو هويات إثنية وطائفية لا أحد يعلم نتائجها المتوقعة إلا الله، فالحراك اليوم لا يتسم بالبطء والتدرّج كما عرفه العالم من قبل، بل يتسارع على نحوٍ مفاجئ وغريب، كما هي حال إيقاع الرغبات والموضات ولمسات الأجهزة الذكية عند تصفحنا إياها. والخطير في هذا التسارع من الحراك يكمن في الأمور الآتية:
أولاً: أن الحراك الطبيعي يتجه إلى صور من التحولات غير الطبيعية، خصوصاً في مجالات فكرية تتصف بالتمهُّل كي يقتنع بها العقل ويؤمن بها، وتحتاج إلى تؤدة تكفي لمزيد من التأمل بها، بينما الحاصل في هذه التحولات، أن الشخص يمكث حياته في دين أو (معتقد) ثم يتحول نحو الإسلام ليتجه بعد ذلك إلى أشد التوجهات تطرفاً وغلوّاً، يرتمي من خلالها إلى جماعات مغلقةٍ وكتومةٍ وبعيدةٍ من الأعين، لكنها الاستجابة الذاتية لهذا المتحوّل الباحث عن النجاة في أطواق أشبه بالفخاخ القاتلة، و الإسلام – كما لا يخفى – جاء روحاً للحياة ونوراً للبشر، والهداية إليه طريقٌ للسعادة، وليست سبيلاً للفناء، كما في قوله تعالى: «فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى» (طه: 123). وقوله تعالى: «مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ» (النحل: 97). لكن الواقع يحكي صوراً كثيرة لأولئك المتحوّلين عشّاق هذا اللون من الانحراف الذين يتلذذون بمشاهده النافرة وأخباره الغريبة ومآلاته المميتة، نعم المميتة التي يتحوّل فيها الإنسان من طلب الحياة الهانئة والرغبة في تصحيح مسار عيشه وتطهير سلوكه من الأخطاء، إلى البحث عن أسوأ الخيارات الإنسانية الطبيعية، وهو الموت لأجل شيء لا يستحق أبداً هذه النهاية المتفجرة، ومن دون أن يسأل نفسه عن جدواها ومشروعيتها ومدى تحقق النجاة بها! (انظر: مقال أ. هاني نسيرة «محاولة لتفسير السقوط السهل للمتحوّلين الجدد إلى الإسلام في أحضان داعش «في الحياة تاريخ 29 تشرين الأول – أكتوبر 2014).
وليس المجال لذكر الشواهد مع كثرتها في الآونة الأخيرة، وإنما القصد رصد الظاهرة وتأثيرها في الأفراد، ولا تقف النماذج عند من سبق دخوله في الإسلام، بل هناك صور مفزعة لأشخاص تحولوا من الاعتدال نحو التطرف في وقت وجيز، على رغم مكوثهم الطويل ولسنوات في بيئةٍ أو أسرةٍ تحارب الغلو وتحذّر منه وتتوعد عليه بالعقوبات، ومع ذلك يتجه هؤلاء بسرعة إلى تلك النار الموقدة، كالفَراش يرى وهجاً لامعاً فيطير إليه على رغم نهايته المحرقة، فبسبب عزلة هؤلاء عن المجتمع، ثم متابعتهم بعض المواقع للجماعات المتطرفة لأسابيع أو أقل، تتشكل لدى هؤلاء أفكار تحوّلية ليست في مجال الفروعيات أو الاجتهادات السائغة التي يختلف حولها أهل العلم في العادة، بل نحو كتلة عقدية متماسكة لا تنفك أجزاؤها عن بعض. وهنا تثور الأسئلة في أسباب هذا النوع من التحوّل، على مستوى سرعة الاستجابة، ونوعية تلك الأفكار التي تنتهي بصاحبها نحو الموت وهو في قمة سعادته، وأحياناً ترد الأسئلة على مستوى البيئة التي سمحت بتعاطيه تلك الأفكار، وغضت الطرف عنه. وسمحت له بالحركة المشبوهة ليضع بذور الشقاق والغلو فيها، وهذا ما يدعوني إلى فكرة وجود «القابلية للتحوّل» نحو هذا الغلو المعاصر بتقنياته الجديدة وجاذبيته الفاتنة.
ثانياً: يلحظ أن هؤلاء المتحوّلين الجدد هم من فئة الشباب، وهذا يكاد يكون قطعياً في ثبوته، فبحسب بحث ميداني أنجزه مرصد الشمال لحقوق الإنسان أواخر سنة 2014، فإن «داعش» على سبيل المثل، يستقطب فئة الشباب ذات الخصوصيات النفسية والسوسيولوجية، والذين لا تتجاوز أعمارهم الثلاثين سنة، وهناك مؤشر آخر يقتضي الاهتمام، وهو أن 74 في المئة منهم، من فئة اجتماعية فقيرة تقطن أحياء هامشية، و23 في المئة منهم ينتمون إلى الطبقة المتوسطة (انظر: صحيفة العربي 3 نيسان – أبريل 2015)، وهذا المؤشر الأخير إن صح في بعض البيئات العربية، إلا أن هناك من انتمى إلى هذا التنظيم من دول خليجية لا يعاني من الفقر أو التهميش الاجتماعي.
يبقى المهم في رصد هذه الظاهرة والكامن في الفئة العمرية الشبابية، فهم الأكثر إقبالاً على الأفكار الجديدة والخلاصية وذات الطابع الجذري في التغيير، في المقابل نجد الأفكار التي توصف بأنها معتدلة ويتبناها المجتمع الرسمي والأهلي، هي التي تحارب – في كثير من الأحيان – التجديد، فضلاً عن أنها تتواكب معه وللأسف، وكثيرٌ منها متصالح مع سلطات ظالمة تشوّه استقلال الوسطية وطهوريتها، كما تبتعد كثير من تلك المؤسسات الرسمية عن مناقشة الأزمات الواقعة بوضوح وشفافية نتيجة المبالغة في الحذر والتخوف المرضي من كل شيء قد يغضب المسؤول ويكدر راحته، ومن هنا نشعر بأن التحوّل لهذا الغلو على رغم غرابته إلا أن دواعيه قد تحسّن القبيح وتقبّح الحسن، وفي ترجمة الإمام الذهبي لسيرة زعيم ثورة الزنج، يقول: «طاغية الزنج، علي بن محمد بن عبدالرحمن العبدي، كان منجماً طرقياً ذكياً، حرورياً ماكراً، داهية منحلاً، على رأي فجرة الخوارج، يتستر بالانتماء إليهم، وإلا فالرجل دهري فيلسوف زنديق» (سير أعلام النبلاء 13/ 129). وهو من أصل فارسي كما يشير بعض المصادر، ونشأ في سامراء في العراق قبل أن يستقر في البصرة ويعلن تمرده على الخلافة، والمحيّر في شخصية هذا الداعي لحقوق المستضعفين والمناضل لأجلهم، جمعه السريع لأكثر من مئة ألف من الأنصار هدّد بهم العباسيين وسيطر من خلالهم على أجزاء واسعة من رقعة الدولة، واقترب من بغداد حتى كاد يستولي عليها، والعجيب أيضاً في شخصية زعيم الزنج ليس تهتكه وفجوره فقط، بل أنه وجد في فكر الخوارج المطية التي يصعد بها ويغري البسطاء ويستثير حميتهم بإخراج نوازع الانتقام وتفجيرها في وجه خصومه لتحقيق رغباته المادية والتوسعية، واستمرت حركة الزنج قرابة عشرين عاماً، قاتلهم الخليفة الموفق بنفسه ولم يستطع حسم المعارك معهم إلا بجيوش غلام ابن طولون (لؤلؤ)، ويُقدر عدد الضحايا وفق بعض المصادر بنصف مليون قتيل من الطرفين. (انظر: البداية والنهاية لابن كثير 11/ 24 – 50 طبعة مكتبة المعارف).
وتحسن الإشارة إلى بيئة أخرى حاضنة الغلو ومتصدرة مشهد التحولات الجديدة في المنطقة، وهي بيئة الإلحاد واللاأدرية، وقد حذر عدد من الدول الإسلامية من هذا الانتشار المفزع للإلحاد بين الشباب (انظر: تحذير دار الإفتاء المصرية في كانون الأول – ديسمبر 2014). وأمام هذا القلق المتزايد لتلك التحولات أجد من المهم ألّا نغفل عن وسائل التلقي الجديدة التي يتأثر بها الشباب اليوم، ولعل أهمها هي الصورة الثابتة والمتحركة، فلم يعد الشباب يهتمون كثيراً بالقراءة والبحث، فالشبكة العنكبوتية المرافقة لأكفِّهم في شكل لا ينفصل كوّنت لديهم قابلية أخرى نحو المشاهد، خصوصاً ما كان منها مثيراً وخلاف السياق العام، ومع ضعف المتابعة والرقابة الرسمية والمنزلية، تنمو تلك المفاجآت التحولية في عقولهم من باب الفضول تارة ومن باب العالمية والشهرة تارة أخرى.
ثالثاً: وهو تساؤل كبير يثار دائماً عند رصد تلك التحولات الجذرية التي نراها بعد أخبار التفجيرات هنا وهناك، والسؤال: هل كان الشباب الغلاة الانتحاريون – وهم طليعة المتحوّلين الجدد – نتاج الواقع العربي اليوم؟ وهل فشل الربيع العربي وتلاشي أحلام العدالة والمساواة والرفاه والحريات في بعض الدول سبب في انضمام بعض الشباب إلى تلك الجماعات المتطرفة التي تتقن أساليب الانتقام العنيفة وتستجيب لنقمتهم على أنظمتهم المستبدة؟! وهل للواقع الاستبدادي وامتلاء السجون والصراع الطائفي التعبوي بين السنّة والشيعة دور في تحفيز الشباب نحو المواجهة الحادة مع تلك الأنظمة والطوائف؟ وكل ما سبق من تساؤلات حيّة ومتداولة أستطيع أن أجيب عنها بالموافقة وصدق تلك الأسباب، لكن لماذا لم تؤدِّ تلك الأسباب إلى ظهور التطرف بعد القمع البلشفي مسلمي أواسط آسيا والبلقان؟ ولماذا لم يظهر الغلو أيضاً في البلاد العربية في حقبة الاستعمار الغربي لها؟!
لهذا، يصعب التمسك بسبب واحد في دراسة ظاهرة معقدة متنامية كظاهرة المتحولين الجدد بالاقتصار الحتمي على عامل قد يصدق في مكان أو زمان دون الآخر. فظروف الاستبداد دوافعها قوية، كما أن الأفكار الصلبة والقطعية والخلاصية التي يميل إليها الشباب قد تكون دافعاً مهماً نحو التطرف، كذلك انسداد الأمل نحو نهضة راشدة أو إصلاح شامل قد يدعو الشاب الطموح إلى الإحباط النفسي، وبالتالي الخوض في أي الوديان حطّت به الأقدار، والبيئة الطائفية المتنازعة كما هي الحال في العراق والشام واليمن، هي بيئة خصبة لنمو طرفي الغلو وتشجيع الاصطفاف مع أحد خصوم النزاع، يؤكد هذا المنحى الإمام الذهبي من خلال إيراده شاهداً تاريخياً مرّ بالأمة، يحكي فيه نتيجة الخلاف بين أتباع معاوية والإمام علي، فيقول: «فبالله كيف يكون حال من نشأ في إقليم، لا يكاد يشاهد فيه إلا غالياً في الحب، مفرطاً في البغض، ومن أين يقع له الإنصاف والاعتدال؟!» (انظر: سير أعلام النبلاء 3/ 128). فالبيئة عندما ساهمت حقيقةً في غياب الاعتدال، ساهمت أيضاً في تولّد الغلو والتطرف وتناميهما.
ولا أستبعد دور البيئة القلقة والمتوترة في استنبات التحولات الجديدة والغريبة، وقد شهد المجتمع تحولاتٍ لمثقفين وكتّاب اندفعوا مع استقطابات المنطقة السياسية، فمن دعاة للحرية إلى مروجين للعنف، ومن دعاة للتسامح إلى طائفيين لا يرتوون من دم الأبرياء، وهذا التبدل في القيم والمبادئ سينعكس على جمهورهم والتابعين لهم، وما يُخشى في تلك المظاهر أنها قد تقضي على صحة المبدأ وتميّع صلابة الحق الطبيعي الذي يشهد له الدين والعقل بالصحة، وأرجو ألّا نكون في عصر السنوات الخدّاعات التي يكذب فيها الصادق ويصدق فيها الكاذب ويخوّن فيها الأمين ويؤتمن فيها الخائن، وينطق فيها الرويبضة، كما أخبر بذلك المصطفى عليه الصلاة والسلام (رواه ابن ماجة، صحيح الجامع 3650).
ومع وجود هذا القلق والخوف، إلا أن المجتمعات في طبيعتها قابلة لهذا التنوع والتماهي في التباين والاختلاف، لكن صحة المجتمع وسلامته هما في إبقاء النماذج النافرة في دائرة الاستثناء، مع ردم المستنقعات الضارة بدلاً من الحماسة فقط لقتل البعوض!
______
*الحياة