مايكل عادل
نستطيع إعطاء عنوان مناسب لكل فترة فنّية في مصر، بمعنى أن نسمّي كل حقبة على المستوى الفنّي من خلال أبرز المواضيع التي طُرحت بشكل متكرر في الدراما والسينما والكتابة. على سبيل المثال، يمكن تسمية حقبة الستينيات من القرن الماضي بأنها “فترة السد”، والسبعينيّات بـ “الانفتاح” أو “تقليب العيش”. أمّا ثمانينيّات القرن العشرين، فهي بكل جدارة فترة “الكوكايين” و”الهيروين”. نوقشت قصّة الإدمان وتبعاته الشخصية والنفسية والاجتماعيّة والصحّية من خلال عدد رهيب من الأفلام، كما لم تتخلّف الدراما التلفزيونيّة عن ذلك الركب.
مع تكرار مناقشة هذا الشأن في الأفلام التي كانت قد بدأت تأخذ المنحنى الوعظي والإرشادي، بدأت السينما تأخذ طريقاً موازياً من خلال التطرّق إلى قضيّة فيروس الايدز وانتشاره بين الشباب، إمّا بالاختلاط الجنسي أو بتعاطي المخدرات عن طريق الحقن. عنصر أخذ الفن حينها إلى سياق آخر بعيد عن صناعة الفن للفن، بل باتجاه الفن الإرشادي. رغم النية الحسنة لصنّاع العمل، إلا أنّه يمكن تلخيص الأخير بأنّه شبيه بإعلانات التوعية التابعة لوزارة الصحة أو وزارة الشؤون الاجتماعية. أصبحت المخدرات الشغل الشاغل لصنّاع السينما. خرج عن ذلك السياق فيلم “الكيف” الذي أخرجه علي عبد الخالق وكتبه محمود أبو زيد، إذ ناقش مسألة الضمير الإنساني وقبول الصواب والخطأ بشكل عام، لكن في شأن يخص تعاطي المخدرات والتجارة بها، متطرقاً أيضاً إلى تصنيعها.
ومع دخول فترة التسعينات، بدأت الموجة في الانحسار تدريجاً إلى أن اختفت بشكل شبه كامل وبدأت الدراما الاجتماعية في ملء الفراغ. مع عبور عام 2000 وبداية ظهور أجيال جديدة من المبدعين، عادت القضايا القديمة لتُطرح بشكل مختلف تماماً، أو بمعنى أدق ليتمّم هؤلاء الفنانون ما ناقشه السابقون من خلال زوايا جديدة. مثلاً، قدّم المخرج عمرو سلامة فيلمين تنطبق عليهما تلك المواصفات، هما “أسماء” و”زي النهاردة”. الأول ناقش الإصابة بالإيدز ولكن ليس من منطلق الوقاية والابتعاد من الأمور التي تم تقديمها كأفعال خبيثة تؤدي إلى السقوط في بئر المرض، إنما من منطلق ما يحدث من عزلة مجتمعية للمريض وتحاشيه من الجميع، حتى ممن تقع على عاتقهم مسؤوليّة علاجه. أمّا في “زي النهاردة”، فقد قدّم سلامة قضية الإدمان من زاوية مختلفة عما قدمته سينما الثمانينيات.
وفي الموسم الرمضاني هذا العام، قدّمت الكاتبة مريم نعوم مسلسلها الجديد “تحت السيطرة” لتعيد فتح ملف إدمان المخدرات. وعند فتح قضيّة مماثلة أكل الزمان عليها وشرب وقدّمتها الدراما التلفزيونيّة والسينما والمسرح وحتى الأغنيّة مراراً، فإنه لا بد من مناقشتها من زاوية مختلفة لم يتطرّق إليها أحد قبلاً. نعوم حجزت مكانها وسط الكبار بعد ما قدّمته مع المخرجة المتميّزة كاملة أبو ذكرى من معالجة درامية لرواية صنع الله إبراهيم “ذات” ثم المعالجة الدراميّة لمسرحية الراحلة فتحيّة العسّال “سجن النسا”. توقع كثيرون أن تقدّم مريم نعوم شيئاً جديداً، بخاصة أنّ التعاون هذه المرّة ليس مع توأمها كاملة أبو ذكرى، بل مع المخرج تامر محسن.
بطلة المسلسل مريم (نيللي كريم) شابة متزوّجة وتعيش مع زوجها منذ سنوات في الإمارات حيث تعرّفا بعدما سافرت عائلتها للعمل هناك.
تبدأ أحداث المسلسل بعودة مريم وزوجها إلى مصر، لتبدأ في اجترار ذكرياتها. وبمجرد أن تصل إلى غرفة الفندق الذي نزلا فيه، تطلب من أحد السعاة أن يأخذ زجاجات الخمر والبيرة إلى خارج الغرفة وهي تسترق النظر إلى الزجاجات بنظرات معبّرة أجادت نيللي كريم أداءها باقتدار. مريم التي غادرت غرفتها في يومها الأول في مصر، ذهبت لزيارة قبر رامي. الأخير هو حبيبها القديم الذي قتلته جرعة زائدة من المخدرات في الفترة التي أدمنت فيها مريم على تعاطي المخدرات، وكان هذا سبب إقلاعها عن التعاطي والسفر مع أهلها إلى الخارج للعلاج والعمل.
إلى هذا الحد، لم يقدّم المسلسل جديداً في القضيّة، إلا بعض التفاصيل الإنسانيّة من خلال شخصيتي شريف (هاني عادل) والطبيب النفسي الذي يجسّده نبيل القط. بالطبع، يصعب الحكم على مسلسل في الثلث الأول من أحداثه، مع الوضع في الاعتبار أن مريم نعوم ليست بالسيناريست التقليدية. يبرز هذا في الحوار المميز، والخارج عن سياق المعتاد. لغة الحوار هنا أكثر قرباً إلى الحوار الطبيعي. فكلّما احتد النقاش بين مريم وزوجها حاتم، قامت بتلطيف الأجواء بمزحة أو بالهروب من النقاش بطريقة ناعمة. وتمتد مظاهر التميز في الحوار إلى المشاهد التي تجمع مريم وشريف، بالإضافة إلى طريقة نبيل القط في التعبير عن حالة مريم ووصفها بالتفاصيل، وفي الوقت ذاته ببساطة شديدة ومعبّرة.
يقدّم الفنان أحمد وفيق شخصية مميزة أيضاً، لكنها موجودة في كل قصص الإدمان المعروفة درامياً، فهو يقدّم شخصيّة الشيطان الذي لا يعثر نفسه فقط، بل يريد أن يجذب معه الآخرين إلى الوحل الذي يغوص به، ضارباً عرض الحائط بالجهد الذي قامت به زوجته لمساعدته في تخطّي مرحلة الإدمان.
إلى هذا الحد، الشخصيات بحد ذاتها تقليدية نوعاً ما، لكن تقديمها ليس تقليدياً البتّة. كُل شخصيّة رُسمت بشكل دقيق وبارع للغاية، والحوار كُتب باحتراف، فيما يدلّ التمثيل على أن المشاهد أمام فنّانين درسوا وعايشوا الشخصيات إلى الحد الذي جعلهم في حالة توحّد حقيقي معها.
ينتظر المشاهدون من مريم نعوم وطاقمها الكثير، فالفن في “تحت السيطرة” ليس فنّاً وعظيّاً وهو أحد الأمور التي تميّز العمل، وتجذب عين المشاهد للمتابعة من دون أن ينتابه شعور التلميذ الذي يتلقّى درساً في الأخلاق طوال الحلقات. المشاهد هنا يقع تحت تأثير جاذبيّة العمل من زواياه الفنّية الخالصة. خطوة يمكن تأكيد نجاح المسلسل بها حتى الآن.
الأخبار اللبنانية