“كلاب الراعي”.. متعة الحكاية بين عبق التاريخ وعمق الفكرة


وفاء شهاب الدين

من هم كلاب الراعي؟ تساؤل يلح من البداية على ذهن القارئ ولا يجيب عنه أشرف العشماوي ببساطة، فالكلاب لا تحمي القطيع من راعيها دوما، إنما في أحيان كثيرة يسيل لعابها اذا ما ذبحت شاه من القطيع لتنتظر الكلاب دورها ونصيبها بعدما تظاهرت بالنباح والحراسة.
الزمان 1803، المكان القلعة بقلب القاهرة، دار الحكم للمحروسة كلها، حسبما كان يطلق المصريون على بلادهم فى ذلك الوقت من مائتي عام، رحلت الحملة الفرنسية عن مصر، وقامت ثورة القاهرة الأولى ثم خمدت فجاة، تبدو الأمور ساكنة على السطح، لكنه هدوء ما قبل العاصفة.
انقسام شديد في نسيج المجتمع المصري يعصف بكل طوائفه من مماليك ومصريين كبار القوم وعوام الناس، أصحاب النفوذ والتجار وغيرهم وصولا إلى الحفاة في الحواري والطرقات، حتى أقباط مصر الذين اصطفوا مع مسلميها لمقاومة الفرنسيس، باتوا خائفين من غدر وشيك، الجميع قلق، ينام بعين مفتوحة، الراعي التركي أطلق كلابه في أرجاء المحروسة، فلول المماليك تستجمع قواها، غايتها حكم المحروسة وتستخدم كل الوسائل للوصول إليها، تستعد لمعركة الفرصة الأخيرة مع الداهية محمد علي الذي صارت له الكلمة العليا على جموع المصريين.
الأستانة تدعم المماليك في الخفاء وتراقب تحركات محمد علي بعيون حذرة ، ممثلة في واليها التركي خسرو باشا الذي كان ضعيفا طيعا خانعا، ومن بعده أحمد باشا خورشيد الذي تأخر كثيرا في اختيار التيار الذي سيسبح معه، حتى جرفه محمد علي ورجاله وأزاحوه من عرش مصر.
من وراء الكواليس يتحرك ببطء قناصل الإنجليز والفرنسيين يتابعون، يخططون ويقررون، يحركون ولاة مصر مثل الدمى الخشبية، يتحالفون مع قادة المماليك، فوضى عارمة تضرب أنحاء البلاد فجأة، بات القتل أسهل من دفع ذبابة عن الوجه، المصريون يبحثون فقط عن قوتهم اليومي، لكنهم يخبئون السلاح في الخفاء، يهابون المماليك ويكرهونهم في آن واحد، لا يترددون في المشاركة بثورة ثانية ضدهم لكنهم سرعان ما يخمدون خوفا من المذابح، لا نصير لهم إلا محمد علي وجيشه الصغير لكنه كان داهية يعرف كيف يتلاعب بهم مستخدما شعرة معاوية الشهيرة مع قادتهم وكل من تعاون معه.
في وسط هذه الأجواء التي تتكئ على خلفية تاريخية والأحداث المتلاحقة، يظهر بطلا الرواية اللذان أبدعهما العشماوي وهما الحسن الرومي وكمال سيف الدولة، أخان غير شقيقين، لأم مصرية تزوجت مصريا أنجبت منه حسن الرومي كاتب الديوان، الثائر النبيل الذي لم تلوثه السياسة بعد، لا يهاب الموت رغم انه يراه كل يوم في مواجهة مع كلاب الراعي وأولهم أخيه غير الشقيق المولود لأب مملوك.
بطل الرواية الثاني كمال الدين سيف الدولة نائب محتسب القاهرة، المملوك الفظ الجبار المرتشي الذي لا يتورع عن الإطاحة برقبة كل من يقف في طريقه للوصول الى السلطة والجاه وتحقيق طموحه كمحتسب للمحروسة كلها، ومع ذلك فالخوف يسكن وجدانه ويحلق فوق رأسه دوما ويتحكم في كل قراراته رغم الحراسة التي تحيط به حتى في مرقده خوفا على حياته.
صراع مرير بين الأخين تدور رحاه عبر فصول الرواية، خاصة بعد ما قاد الحسن الرومي صفوف المقاومة ضد المماليك، فبات شبحا يهدد منصب أخيه ويزعزع نفوذه، يكاد يظفر به ليقتله لكنه يفلت منه في اللحظات الأخيرة كل مرة، ليعاود كشف مؤامرات المماليك بمفاجأة مدهشة كل مرة .
على خلفية هذا الصراع القاتم والدموي يظهر بقلب الأحداث خيط من الرومانسية والمشاعر الرقيقة وضعه العشماوي بحرفية بالغة ليضئ جوانب الصراعات المظلمة، تظهر شخصية “نورسين” أو “ضي القمر” تلك الفتاة المصرية التي تقع في غرام الحسن ويهيم بها عشقا بدوره، رغم كونها جارية في قصر أمه، تعيش معهم في دار سيف الدولة القابعة على نيل الجيزة، تلقى الأمرين من أخيه كمال سيف الدولة وزوجته ورد شان بعد أن تحولت الدار لثكنة عسكرية خوفا على حياته، لكنها تساعد الحسن في مراحل هروبه طوال فصول الرواية بعدما أجبره أخوه على الاختفاء معلنا مقتله، حتى يستقر به المقام في صحراء الصعيد ليعيش مع المطاريد والمجرمين، ليفاجئ بأن لهم قواعد وقوانين مطبقة بنظام صارم لا يمكن لهم أن يخالفوه أبدا وإلا كان الموت جزاءهم.
يندهش من نمط حياتهم فهم مثل الذئاب في كل شيء، يرتدي معهم جلد الذئب، يعايشهم ويحاكي معيشتهم، يخرج بهم الى المدينة يقودهم في جيش صغير ليقاتل جحافل المماليك التي فرت الى الجنوب، يغير معهم مجبرا على القوافل التجارية لكنه يتراجع في اللحظات الأخيرة، يعجب بمنطقهم وفلسفة زعيمهم سليم أبودياب القاتل العتيد ولص الدواب الهارب من المماليك، لكنه لا يتمكن أبدا من التحول الى ذئب مثلهم.
رواية العشماوي الخامسة ترصد الحياة الاجتماعية بدقائقها وخصوصياتها المتفردة في مصر، دور الاقباط في الحفاظ على تماسكها، المساعد يعقوب تلميذ المعلم جرجس الجوهري ويوسف الفقير اللذان ساعدا الحسن الرومي على استكمال ما بدأه للخلاص من كلاب الراعي وآخرهم شقيقه كمال سيف الدولة الذي يعود به أسيرا معلنا أنه لقى مصرعه، فالتاريخ يعيد نفسه على أضيق الدوائر كذلك، يحبسه في قبو بعد تولي محمد علي حكم مصر، يخفيه عن العيون حتى لا تطاله رقبته سيوف جنود الارناؤوط الذين اطلقهم محمد علي للخلاص من المماليك خاصة مع اقتراب مذبحة القلعة الشهيرة وما تلاها من مجازر بشوراع القاهرة الكبرى وبيوتها.
بعدما انقلبت الآية، انتهى عصر المماليك وهرب من نجا منهم الى حدود السودان وبقى كمال سيف الدولة قابعا في قبوه لتنتهى الأحداث بنهاية غير متوقعة على الاطلاق وربما كان مشهد النهاية من أجمل مشاهدها على الاطلاق.
مؤلف الرواية قاض مصري بمحكمة استئناف القاهرة وصدرت له أربعة روايات وكتاب وثائقي عن سرقة وتهريب الآثار المصرية خلال السنوات الخمس الماضية عن الدار المصرية اللبنانية للنشر والتوزيع ووصلت إحدى رواياته لقائمة جائزة البوكر العالمية وفازت أخرى بجائزة أفضل رواية عربية من وزارة الثقافة المصرية.
ميدل ايست أونلاين

شاهد أيضاً

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي منال رضوان     المثنوى المعنوى، وديوان شمس لمولانا جلال …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *