*محمد أبوعرب
لا يمكن الحديث عن الحركة التشكيلية في الإمارات من دون النظر إلى حجم التنوع في التجارب الفعالة فيها، فعلى الرغم من قصر عمر التجربة الفنية ونضوجها مقارنة بسائر البلدان العربية الرائدة، إلا أن الحركة التشكيلية الإماراتية شهدت وما زالت تشهد تنامياً ملحوظاً يظهر في جملة التيارات والتجارب الفنية اللافتة فيها، إضافة إلى التزايد الملحوظ في دور العرض والملتقيات والدولية.
الأمر اللافت في الحراك التشكيلي الإماراتي هو قدرته على هضم مختلف الفنون والأشكال الإبداعية في مساحة اللوحة التشكيلية، إذ ظلت المساحة مشرعة على التجريب منذ تأسيسها قبل أربعة عقود ماضية، ولم تكبح التيارات الفنية المكرسة عربياً ومحلياً جماح التجريب والمزج والتفاعل في العمل الفني لدى الفنان الإماراتي، وهذا ما لم تحظ به العديد من التجارب التشكيلية في الوطن العربي، إذ يبدو التجريب مغامرة كبيرة في تلك الحركات، ولا يأخذ شكله إلا على صعيد الخامة والأسلوب الفني إلا أنه يظل مخلصاً ومصنفاً ضمن المدارس الفنية المعروفة.
ليس غريباً أن تتحول اللوحة المسندية في الحراك التشكيلي الإماراتي إلى مركز تصب فيه مختلف التجارب البصرية الأخرى، وليس غريباً أن تنهدم الحواجز بين النحات، والخطاط، والمصور، والفنان التشكيلي، لتجتمع كلها في إطار اللوحة المسندية المشغولة بخامات متعددة على القماش أو الورق.
ويبدو طبيعياً أن ينتج هذا الخليط حالة فريدة قوامها الفعل الجمالي من دون أي اشتراطات مدرسية أكاديمية، فالمتابع الفني يجد أن مجمل النحاتين الذين تخرجوا في أوائل الثمانينات من القرن الماضي هجروا المنحوتة إلى اللوحة، وكذلك الحال على صعيد الخطاطين الذين تتلمذوا على يد كبار الخطاطين في الوطن العربي، والأمر ذاته لدى المصورين والخزافين والحفارين وغيرهم من الفنانين.
أنتجت هذه الحالة ظواهر عديدة في الحراك التشكيلي منها ما شكل إضافة وخدم المشهد الفني التشكيلي الإماراتي ومنها ما أحدث ضرراً، وسرعان ما تجاوزه الحراك، فالعديد من التجارب التشكيلية خصوصاً الشابة منها بدت مغالية في التجريب للحد الذي خرجت أعمالها عن إطارها الجمالي ولم يتشكل لها حضور إبداعي في الساحة، مقابل ذلك ظهرت ملامح جديدة شكلت بفعل التراكم حالة جمالية فريدة تتجلى في تجارب العديد من الفنانين الرواد منهم والشباب.
واحدة من تلك الملامح انشغال الفنانين الإماراتيين على اللغة العربية عبر الشكل والرمز الذي تتمظهر فيه والمتمثل في الخط العربي، فلم يعد الخط العربي مساحة للخطاطين الذين يحملون إجازة في الخطوط من مدارس الخط في القاهرة، أو أسطنبول، أو طهران، أو غيرها من المدارس المعروفة، بل صار حالة جمالية واسعة المعالم يشتغل عليها الفنانون برؤى وتجليات متعددة للحد الذي باتت هوية فنية لكثير من الفنانين الإماراتيين.
يمكن القول إن الاشتغال في الخط العربي ظهر في العمل الفني الإماراتي في مستويات متعددة وبتجليات مختلفة كل منها يشكل فعلاً مختلفاً ومغايراً يميز تجارب الفنانين عن بعضهم البعض، فبعض الفنانين ذهب إلى اللوحة المسندية محملاً بتقنيات الخطوط الكلاسيكية مستنداً بذلك على قواعد الخط العربي المدرسية ومنطلقاً من مرجعيته كخطاط، فقدم أعمالاً تميل إلى اللوحة الخطية أكثر من التشكيل الفني على رغم اشتمالها على عناصر أخرى مضافة، وهذا يظهر في تجارب العديد من الفنانين مثل الخطاط محمد مندي، والخطاط خالد الجلاف، وغيرهم من الخطاطين.
من جانب آخر اشتغل بعض الفنانين على الشكل البنائي للحرف في الخط العربي في محاولة لكسر مفهوم التجريد اللوني الصافي، إذ مازال التجريد اللوني حتى اليوم موغلاً في الغموض لدى المتابعين المقتنين للأعمال الفنية، فجاء شكل الحرف العربي كتكوين جمالي يتكىء على مرجعية واضحة في ذهن المتلقي، وفي الوقت نفسه يشكل المسار والفعل الذي يريده الفنان في اللوحة، فبعض الفنانين يطرح ثنائية اللين والحدة في أعماله، والبعض الآخر ينحاز إلى التكثيف والتشابك فيما يعمل آخرون على فكرة اتحاد المحمول الصوتي للحرف في الإيقاع اللوني للوحة.
يتجلى هذا في تجارب عديدة من الفنانين الفاعلين في الحركة التشكيلية الإماراتية، ومنهم الفنان عبد القادر الريس الذي قدم العديد من الأعمال في هذا السياق، اشتغل فيها على مساحات لونية شاسعة وقد وظف قدرة الحرف في الخط العربي على إحداث فارق وأثر جمالي واضح يعيد قراءة العمل الفني بمنظور جديد قائم على التقابل بين الكتلة والفراغ في العمل الفني.
الأمر ذاته يظهر في أعمال الفنانة فاطمة لوتاه، إذ تشكلت تجربتها خصوصاً في السنوات الأخيرة على أكثر من صعيد، فمن الاشتغال على النصوص الصوفية وتحقيق العلاقة بين المنحوتة والنص الصوفي المكتوب، إلى الديجتال آرت وبورتريهات الشخصية الإماراتية، وصولاً إلى الحروفيات في العمل التجريدي، حيث استخدمت شكل الخط العربي بتكرارات لتفتح مساحات فاتحة مقابل القيم اللونية الغامقة التي تشتغل فيها أعمالها وهذا ظهر في العديد من الأعمال النحتية واللوحات المسندية.
الصورة الثالثة للخط العربي تشكلت بوصف الخط حاملاً للأفكار واللغات، والأحلام، والرؤى، وبوصفه تكثيفاً للغة العربية التي هي رمز الهوية والقومية، إذ لم يشتغل الفنانون على الشكل أو معنى النص المكتوب بقدر ما استحضروا اللغة كهوية وكمحمول ثقافي كامل، وهذا يظهر واضحاً في تجربة الفنان مطر بن لاحج الذي يطرح تجربته في المنحوتات المعدنية القائمة على تناثر مجسمات الحرف العربي في عمل يستند على القوة في الحركة.
____
*الخليج