*يسرى الجنابي
ترتكز نظرية التناص على خلفيات أدبية وفلسفية، ففي الحقل الأدبي تتجلى في آثار باختين وبعض معاصريه من الشكلانيين الروس، ومن تأثر بها كجوليا كرستيفا ورولان بارت في بداية أمره، فهؤلاء ينظرون، مع بعض الخلاف، إلى أن النص الأدبي هو إعادة إنتاج وليس إبداعا محضا، وأن كل نص هو معضد أو قالب لنص آخر سابق عليه أو معاصر له.
وفي الحقل الفلسفي تتجلى في التفكيكية التي يمثلها جاك ديريدا وبارت في آخر أيامه وبول ديمان وهارتمن. فقد وظفت نظرية التناص هنا لنسف بعض مقولات المركزية الأوروبية مثل مقولة “الحضور” ومقولة “الانسجام” ومقولة “الحقيقة المطلقة”، كما يقول الناقد المغربي محمد مفتاح.
الجنس الروائي
ظهر مصطلح التناص في بدايته مرتبطا بالجنس الروائي المحايث لنشأته، لكن سرعان ما انتشر في مجال الدراسة الأدبية بمختلف أجناسها وأنواعها، وصار بذلك مفهوما مشهورا كل يحاول تجريبه في مجال اختصاصه واشتغاله، فاهتم به المبدع والناقد والبلاغي والمؤرخ والعالم الاجتماعي وما إلى ذلك.
لكن منظري “التناص” لم يصوغوا، كما يقول مفتاح، تعريفا جامعا مانعا له، لذا تعددت تعريفاته وآلياته وأصنافه في كتاباتهم، وفي دراسات النقاد والباحثين، وجرى البحث في ينابيعه، أو جذوره، ومرادفاته في تراث النقاد والبلاغيين القدماء. ومن أبرز تلك التعريفات ما جاء في أبحاث النقاد والباحثين الغربيين: باختين، كرستيفا، جينيت، أريفي، ريفاتير، لوتمان، جيني، تودوروف، وبارت.
لم يستعمل باختين مصطلح “التناص”، لكنه أسّس له نظريا في كتاباته، من خلال مفهوم “الحوارية”، خاصة في كتابيه: “شعرية دوستويفسكي”، و”فلسفة اللغة”، فقد وجـد أن روايات دوستويفسكي تجمعها ميزة أو خاصية واحدة هي كونها جميعا “حوارية”، تتعدد فيها الشخصيات والأصوات ووجهات النظر والضمائر على نحو كبير.
وكان يعني بهذا المفهوم دراسة التفاعل بين نصوص معيّنة، أو التّعالق بين نصوص معينة، سواء أكان التناص شبها بين النصوص أم كان إحالة نص على نص سابق. ووقف باختين طويلا على الطابع الحواري للنص الأدبي، إلى جانب مصطلحات أخرى مثل: “تعدد الأصوات”، و”التداخل السيميائي”، و”التداخل اللفظي”.
والفرضية الأساسية التي ينطلق منها هي أن كل نص يقع عند ملتقى مجموعة من النصوص الأخرى؛ يعيد قراءتها ويؤكدها ويكثفها ويحولها ويعمقها في نفس الوقت. والكاتب من وجهة نظر باختين يتطور في عالم مليء بکلمات الآخرين، فيبحث في خضمها عن فكرة تسكنها أصوات أخرى.
وهكذا فإن مفهوم “الحوارية” عنده يتحكم فيه هاجس العلائق بين النصوص والثقافات واللغات في جو الدراسات المقارنة. وقد عدّه بعدا ضروريا وجوهريا في جميع أنواع الخطاب: المحادثة اليومية، القانون، الدين، العلوم الإنسانية، بينما يتضاءل دوره في العلوم الطبيعية.
مفهوم الحوارية
التقطت كرستيفا مفهوم “الحوارية” من باختين، وقامت بتطويره وإعطائه اسما جديدا هو “التناص”. وكانت إلى حدود كتابها “ثورة اللغة الشعرية” (1974) دائمة الحديث عن هذا المصطلح وأوجه استعمالاته منطلقة في ذلك من طروحات ماركسية كما يمثلها ألتوسير، ونفسية كما طورها جاك لاكان، إضافة إلى التحويلية وغيرها، فهي ترى أن النص “إنتاجية”، وهذا المفهوم شديد الصلة بمصطلح “الإنتاج”، الذي تحدث عنه ماركس كثيرا في كتاباته.
ومعنى كون النص إنتاجية: أن علاقته باللغة التي يتموقع فيها تصبح من قبيل إعادة توزيع (عن طريق التفكيك وإعادة البناء)، وأنه يمثّل عملية استبدال من نصوص أخرى، أي عملية تناص، ففي فضاء النص تتقاطـع أقوال عديدة مأخوذة من نصوص أخرى، مما يجعل بعضها يقوم بتحييد البعض الآخر ونقضه.
وفي المجال نفسه (ما يتصل بالإنتاجية) تستخدم كرستيفا ثنائية مستقاة من النحو التوليدي التحويلي المستعار من العالم اللغوي تشومسكي، ومن المصطلحات التوليدية الروسية (سوبوليفا، وسومجان) إحداثياتها هما: النص الظاهر، والنص المولِّد.
لقد أعطت كريستيفا مصطلح “التناص” معنى أكثر عمومية عن الذي أعطي للحوارية، التي لا تخص سوى بعض الحالات الخاصة للتناص، حيث طورت فكرتها هذه في كتابها “أبحاث من أجل تحليل علاماتي”، وتوصلت إلى نتيجة مفادها أن التناص ميزة أو خاصية لا يستطيع أن ينفلت منها أي مكتوب على الإطلاق، فـ”كل نص ينبني كفسيفساء من الاستشهادات، إنه امتصاص وتحويل لنص آخر”. وأكدت في كتابها “علم النص” “أن كل نص هو تشرب وتحويل لنصوص أدبية أخرى”.
وبهذا التصور للتناص استطاعت كرستيفا أن تقترح رؤية نقدية جديدة، تؤكد انفتاح النص الأدبي على عناصر لغوية وغير لغوية (إشارية ورمزية)، متجاوزة بذلك التصور البنيوي الذي يلح على مفهوم البنية، ومشيدة في الوقت نفسه بشعرية جديدة تنظر إلى النص كملفوظ لغوي واجتماعي.
لكن كرسـتيفا تراجعت، في ما بعد، عن مصطلح “التناص”، بعد أن تلقفته أيد كثيرة، أسـاء بعضها استعماله وتوظيفه، مفضلة عليه مصطلحا آخر هو “التحويل”، بوصفه آلية من الآليات النقدية الأساسية التي يقوم عليها “التناص”.
________
*العرب