*راشد عيسى
حظيت الشابة المصرية ندى سلامة بما يحلم الكثيرون برؤيته؛ أن يتمكنوا من الفرجة على أصداء خبر موتهم، ولربما كان بيننا من تخيل كيف سيكون وقع خبر موته، وقد يكون بكى مع الباكين، أو لعله أشفق على دموع محبيه فأقفل المخيلة وعاد سريعاً من موت مؤقت غير مؤلم.
لقد فعلتها ندى سلامة، فشغلت الإعلام التقليدي، كما وسائط الميديا الاجتماعية، بحدث انتحارها المدوي، ويبدو، ولا ندري إن كان ذلك مجهزاً سلفاً، أم أنها المصادفة وحدها، أن صورها، التي التقطها مصور محترف وملأت في غضون ساعات ما بعد موتها صفحات الصحف ومواقع الإنترنت، قد فعلت فعلها في ترويج الخبر، وفي مزيد من التحسّر على واحدة من بنات وزهرات الثورة المصرية.
امتلأت الصحف بصورها وهي تعزف الناي في المقهى، وعلى رصيف المترو، وصورتها ونصف جسدها مغطى بماء البحر، وفي قلب حي مصري شعبي ووراءها رسوم غرافيتي، وصورة يظهر فيها وشم على يدها عنوانه الحب، إلى صورة لنفسها متشحة بالدموع المنسابة مع الكحل مع عبارة تتحدث عن الموت، صورة تحت ضوء الفوانيس الشرقية، في محل النحاسيات، إلى سواها من الصور.
لقد حظي محررو الصحف بكل عناصر القصة الدرامية، وفوق ذلك جرى تزويدهم بما يحلو لهم من الصور، ماذا تريد الصحف غير هذا؛ انتحار شابة في عز الصبا، عازفة ناي توصف بأنها صانعة البهجة، صفحتها على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك التي تمتلئ بإشارات عن رغبتها المبيتة في الانتحار، هذا إلى جانب صورة شهيرة لها مع شابة من بنات الثورة المصرية قضت انتحاراً منذ شهور هي زينب المهدي، ما يضعنا في أجواء انتحار جماعي لأبناء وبنات الثورة، بدأ بزينب، ولا نعرف أين يمكن أن ينتهي. إلى جانب ذلك، توفر فيديو تتحدث فيها سلامة نفسها عن ولادتها، وفرادة كونها طفلة أنبوب، قرر أهلها المشتغلون بالموسيقى إنجابها لإكمال فرقة موسيقية، ما يعني أنها ولدت سلفاً عازفة في فرقة، ثم تروي كيف أنها اختارت آلة أخرى قبل أن تهتدي إلى الناي، قدرها، وكيف تأثرت بعبارة أحبتها وكانت حافزاً لها، حين قيل لها إن «الناي يبكي على الدوام لأنه فارق جذع الشجرة».
تلقّف الصحافيون والكتّاب حكاية انتحار ندى سلامة، فكتبوا، وتأثروا، وبكوا، ورثوا حلماً جميلاً هو في جوهره حلم الثورة المصرية، وقد بلغت كل هذه الخيبة. أنا أيضاً كدت ألتحق بركب الراثين، فليس من اللائق أن يتأخر المرء عن حكاية كهذه، وطبعاً فكرت فوراً بأن أحداً ما لا بد أن يكون على هذا القدر من الشرف ليعلن احتجاجه على زمن رديء كهذا، وبأن أحداً ما لا بد أن يعلن بشكل ساطع عدم القدرة على التكيّف مع فظاعة ما يجري، كان عليّ أن أقول إنها صرخة الاحتجاج الخاصة بزمننا، ينبغي أن يكون هنالك دائماً خليل حاوي ما عليه أن يطلق النار على رأسه، كي نقول «لا، لم يصمت الشعراء»، لكن المصادفة وحدها ما أخرّني عن قول كل ذلك.
بعد يوم كامل على انشغال الإعلام والتلفزيونات بانتحار ندى سلامة ستظهر هي نفسها بمنشور على صفحتها لتقول إنها على قيد الحياة. لم تمت، لكنها حاولت الانتحار خمس مرات في ثلاثة أيام، وأعلنت من جديد حنقها على العالم، وعلى حياتها التي تسمى مجازاً حياة. لكن لماذا سيشعر الجميع بالإحباط، كما لو أنهم أرادوا انتحارها من غير رجعة؟ ألم يكونوا متألمين على غيابها؟ ها هي عادت، صانعةُ البهجة، عازفةُ الناي في المقاهي ومحطات القطار، عادت لتضيف أسطورة جديدة إلى أساطيرها عن الولادة وأصل الناي والحب والثورة، فلمَ الزعل، إلى حدّ أن بعضهم قال إنها اخترعت حكاية انتحارها من أجل الشهرة السريعة، البعض قال إن ذلك جاء من صالح المصور الذي نال فرصة استثنائية في معرض غير تقليدي. هكذا انقلب التعاطف مع صانعة البهجة إلى شتائم واتهامات بالتلاعب بعواطف الناس والإعلام، ولم ينته سيل التعليقات حتى الساعة. أحد التعليقات قال صراحة إنه يفضل البنت ميتة ولكن صادقة، على أن تكون حية متلاعبة بالعقول.
لم تظهر الحقيقة كاملة بعد، فإنْ تكن البنت قد عادت من الموت، فلم ينكشف بعد لماذا حدث الإعلان المزيف عن الانتحار، وماذا أرادت البنت من وراء ذلك، ومن المسؤول، مع العلم أن الشاب الذي أشاع النبأ قال إن ذلك جاء بناء على اتصال مع شقيقتها التي بكت وأكدت، بحسبه، أن ندى دفنت بالفعل في كفر الشيخ، فماذا كان على الإعلام أن يفعل إزاء ذلك؟ هل يلتزم قواعد محددة للتحقق من الوفاة، من قبيل التأكد من أكثر من قريب للمتوفى، بل ومن رجل الدين الذي أشرف على الدفن، كما تفعل منظمات حقوقية محترفة، هذا في أماكن ساخنة مثل سوريا، على سبيل المثال، فما بالك في مناطق مستقرة نسبياً كمصر! يبدو أن الإعلام وقع بالفعل ضحية تلاعب ما، لم يحسم سره بعد، ما يستوجب بالطبع تدقيقاً من نوع مختلف. ستكون ندى سلامة درساً مفيداً على أي حال.
في أربعينيات القرن الفائت شاع خبر وفاة سلطان باشا الأطرش، زعيم الثورة السورية (1925)، ونشر الخبر في عدد من الصحف، غير أن صحيفة «الأهرام» المصرية لم تنقل النبأ، وحين سئل رئيس تحريرها عن السبب قال «من لم يمت في «الأهرام» لم يمت»، في إشارة إلى عدم صحة النبأ، وإلى دقة ومصداقية «الأهرام»، فذهبت العبارة مثلاً، فهل أوردت «الأهرام» نبأ الانتحار؟
_____
*القدس العربي