في ترجمة القرآن إلى اللغات المحلّية


*منصف الوهايبي

قد لا يعرف بعضنا أنّ مارتن لوثر هو الذي نهض بترجمة خاصة به للكتاب المقدس، بلغته المحليّة بدلاً من اللغة اللاتينيّة، التي كانت الكنيسة الرومانية تجيز استخدامها لقراءة الكتاب المقدس دون غيرها من اللغات. 

ويؤكّد الباحثون أنّ هذه الترجمة كان لها أثر كبير في الكنيسة وفي الثقافة الألمانيّة خصوصا والغربيّة عمومًا. وأقدّر أنّ طرح مثل هذه القضيّة عندنا، يحتاج إلى قدر غير يسير من التأنّي وحسن التناول؛ لأنّ الأمر يتعلّق بـ»هويّات» هي اليوم أشبه برمال متحرّكة، وليس بثوابت؛ وكأنّ المتحوّل هو الثابت الوحيد في تاريخ الإنسان.
أمّا هذا الكتاب «الجامع الميسّر لمعاني القرآن العظيم باللغة الأمازيغيّة، الجزء الأوّل ـ لسامية مشتوب وكهينة زموش ـ رعاية وإشراف: مديريّة الشؤون الدينيّة والأوقاف لولاية تيزي وزّو ـ الجزائر2013» ، فيثير جملة من القضايا اللغويّة والجماليّة الشائكة، نحاول في ما يأتي أن نشير إلى بعضها. والكتاب بإشراف صايب محنّد أويذر مدير الشؤون الدينيّة والأوقاف لولاية تيزي وزو. وهو جزء من مشروع أعمّ يتعلّق بترجمة القرآن إلى اللغة الأمازيغيّة. وقد اقتصرت الأستاذتان سامية وكهينة على أربع سور هي (القدر والعصر والفيل وقريش) متوخّيتين منهجا قوامه: موضوع السورة العام وأسباب نزولها، فتفسير مفصّل للآيات، في سياق يجمع بين العربيّة والأمازيغيّة.
والعمل موثّق علميّا من حيث المصادر والمراجع المخصوصة بعلوم التفسير والحديث النبوي وعلوم اللغة العربيّة. وممّا يُحمد للباحثتين استئناسهما بالشعر، سواء العربي منه أو الأمازيغي، لتوضيح معنى أو فكرة. بيْد أنّه ليس بميسوري تقييم الترجمة، لسبب لا يخفى هو جهلي باللغة الأمازيغيّة. ومع ذلك فإنّ هذا العمل علميّ بشهادة يوسف بلمهدي رئيس لجنة القراءة في وزارة الشؤون الدينيّة والأوقاف في الجزائر. 
يثير هذا الكتاب قضايا بعضها يتعلّق بلغة القرآن وضرورة ترقيمه، والأخرى بعلاقة القرآن بالشعر، فقد عمل الشّعر منذ الجاهليّة، شأنه شأن القرآن، على امتصاص اللّهجات العربيّة «المتنافرة» في شبه الجزيرة العربيّة، وساعد على تنمية المخزون في الذّاكرة المعجميّة وعلى فهم المفردات ومعانيها وتنقّلها من قبيلة إلى أخرى، وأتاح إمكان التّصرّف بالمفردات، بإحلال مفردة وإغفال أخرى، ونشرها عبر المكان والزّمان دونما استبدال، ذلك أنّ الاستبدال يمكن أن يخلّ بنظام القالب الذي وسم الشّعر مثلما وسم القرآن. ومن ثمّ يحمل السّياق على حفظها ويعمل على توضيحها حتّى إن كان سياقا مضلّلا والقرآن نصّ ّكتابيّ وإن لم تكن كتابته خالصة، والشعر نصّ شفهيّ وإن لم تكن شفهيّته خالصة، أو هو نصّ قابل للكتابة والتّدوين.
وهذه العربّية التي تضمّ أشعار أهل الجاهليّة وكلام الفصحاء والحكماء من العرب، وكلام الكهّان وأهل الرّجز والسّجع، وغير ذلك من بلاغتهم وصنوف فصاحتهم، بتعبير الباقلاني لغة فنيّة خالصة كانت قد ترفعّت عن لهجات الخطاب اليوميّة منذ زمن بعيد، أي قبل ظهور الإسلام بكثير. ولكن بدون أن يسوق ذلك إلى خلوّها من أيّ أثر لهذه اللّهجات. والأقرب إلى الحقّ أنّ هذه اللّهجات كانت من الفصحى بمنزلة العامّية ولغة الحياة العامّة. وهذا رأي نسوقه بكثير من الاطمئنان ولا يضعّفه ما نعرفه عن أهل اللّغة والنّحو من علماء العربيّة، الذين ظلّوا حتّى القرن الرّابع للهجرة يترحّلون للبادية ويلتزمون صحبة الأعراب للاستعانة بهم على كشف مكنونات اللّغة والنّفاذ إلى أسراها، أو لرفع إبهام أو إزالة لبس كلّما رابهم من أمرها ريب وعرض لهم ما يعرض من كلام ورد على غير ما ألفه العرب واستعملوه. فاللّغة التّي كانوا ينشدونها، إنّما هي لغة الشّعر القديم، وليست لغة التّخاطب عند هؤلاء البدو. فلا أحد منهم حفل بهذه اللّغة أو جعلها والفصحى نسجا واحدا وكيانا بعضه من بعض. وممّا يؤكّد ذلك أنّ أكثر كتب اللّغة والنّحو كان مدارها على الشّعر القديم والاحتجاج به للتثبّت اللّفظيّ وتوثيق اللّغة وتحريرها واستنباط القاعدة ووضع الأحكام. وهي شواهد منتزعة من شعر الجاهليّين ومن بعدهم إلى نهاية عصر الاحتجاج. 
ومهما يكن من أمر فإنّ القرآن والشّعر تلازما في شتّى دراسات اللّغة والنّحو والبيان، وهما اللّذان نشآ واستحكما في بيئة واحدة، ثمّ هاجرا إلى بيئات أخرى غريبة شاع فيها ما شاع من ظواهر اللّحن والعجمة واختلاط الفصيح بالعاميّ. وفي سياق كهذا يمكن أن نفهم مبدأ تهذيب اللغة عند القدماء حقّ الفهم ـ وهو أشبه ما يكون بـ»عمود اللّغة» قياسا بـ»عمود الشّعر. على أنّ هذه اللغة القرآنيّة تظلّ قرين لغة مكتوبة تتميّز عن الّلغة المنطوقة بعدد من الخصائص، مثل استخدام قواعد النّحو ومفردات اللّغة استخداما محكما، حتّى لا يعتريها اللّبس والغموض.
إنّ المحافظة على الاستعمالات القديمة – وهي سمة من سمات اللّغة المكتوبة – ترجع في ما يتعلّق بالعربيّة الفصحى إلى أسباب معقّدة، لعلّ من أهمّها السّمات المميّزة لنظام العربّية العامّ وبعضها شديد المحافظة. ومن الصّعوبة بمكان أن نلمّ بها كلّها في هذا الحيّز فهذا يمكن أن يكون موضوع دراسة قائمة بذاتها. 
من هذه السّمات ظاهرة التصرّف الإعرابيّ والنّزوع إلى الأصوات الصّامتة والحفاظ الشّديد على الوزن. فقد احتفظت العربية بالتصرّف الإعرابيّ، فيما فقدته جميع اللّغات السّامية. ومن الثّابت تاريخيّا أنّ الإعراب لازم الفصحى منطوقة كانت أو مكتوبة على نحو ما لازم التحرّر من الإعراب العربيّة المولّدة، ولكن بدون أن يكون هذا ولا ذاك الميسم الوحيد المميّز لهذه أو لتلك.
أمّا قضيّة شعريّة النصّ القرآني فهي جماليّة بالأساس أي هي قضيّة فلسفيّة كلّما تعلّق الأمر بـ»الأدب القرآني». وقد اختلف علماء العرب بشأنها أي بمدى حضور الجمالي ووظائفه وأشكاله وهيئاته. وكانواعلى حيطة وحذر كبيرين إزاء هذه المسألة؛ حتى لا يلتبس القرآن بالشعر. وربّما غاب عنهم أنّ «الشعراء يقولونَ ما لا يفعلون» أو»في كلّ وادٍ يهيمون» ليسوا في المنظور القرآني كلّ الشعراء؛ وإنّما طائفة منهم كانت تعتقد في «شياطين الشعر». هذا رغم أنّ الشاعر ليس مطالبا بالمناسبة بين قوله وفعله وإنّما بفعل القول. 

وفي القرآن وهو ليس «شعرا» بمعنى القصيدة؛ وإنّما بمعنى «الصنعة اللطيفة في نظم الكلام» كما يقول الباقلاني، ما يحيل على أساليب الشعر في إجراء الصورة الشعريّة وتوخّي لغة الضرورة والإيقاع وما إليهما. من ذلك قول النبي» زيّنوا القرآن بأصواتكم» و»ما أذن الله لشيء ما أُذِن لنبيّ يتغنّى بالقرآن» وما يُروى عنه يوم فتح مكّة: «رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على ناقة له يقرأ سورة الفتح. فرجّع فيها» والترجيع هو ترديد الصوت في الجهر بالقول مكرّرا بعد خفائه، أو قول النبي لأبي موسى الأشعري وهو يرتّل القرآن:» لقد أُوتيتَ مزمارا من مزامير آل داود. ويتجلّى ذلك في «المنكوس القرآني» أو استعمال اللفظة التي تٌقرأ طردا وعكسا، مثل»كلّ في فلْك» أو»ربّكَ فكبّر»، بل في شكل «التسميط»، كما هو الأمر في بعض الشعر الجاهلي أو في مزامير داود. وهذا يقتضي إعادة توزيع الآيات القرآنيّة على البياض. ولا بدّ في هذا السياق من معالجة ظاهرة، أكاد أقرّر أنْ لا أحد ـ في حدود علمي ـ التفت إليها أو نهض بها في «القرآنيّات» الحديثة، وهي ظاهرة «الخطاب المنقول». وقد لا يخفى أنّ نقل كلام الآخر، يلزم «الناقل» تغييرا في الكلام المنقول؛ يشمل الضمائر والأفعال وظروف الزمان. والحق أنّنا لم نجد من عُنِيَ بهذه الظاهرة النحويّة عند العرب المعاصرين. ونعني تلك التي كان مدارها على الفعل «قال». والقدماء على جلال قدرهم وعلمهم، لم يُعنوا كثيرا بإبراز الفروق بين القول والكلام، وحكاية الكلام أو حكاية القول التي نبّه إليها عبد القاهر الجرجاني في «دلائل الإعجاز»، والنقل باللفظ، والنقل بالمعنى. وهذا وغيره ممّا ينبغي أن تنهض به «القرآنيّات» الحديثة، يستدعي في تقديرنا إعادة ترقيم النصّ القرآني، باستخدام علامات الوقف الحديثة، وأن نحتفظ له في الآن نفسه، بعلاماته المأثورة أي تلك المتعلّقة بـ»لحظات الوقف» التي تتيح تلاوته على نحو مخصوص.
والترقيم كما هو معلوم، لم يظهر بظهور الخط، وإنّما كان لاحقا. ولعلّنا ندين بظهوره إلى مكتبة الإسكندريّة في القرنين الثاني والثالث قبل الميلاد، مع كبار نحاتها. 
فلعلّ تصوّرا كهذا الذي نقترحه أن يجعل طريقتنا في قراءة النصّ القرآني، أغنى وأحكم نظاما، وأن يساعدنا على إدراك أهمّ الصّلات والتّعارضات بين «شفهيّته» و»كتابيّته»، وفهم الكثير من أسباب تفاوت إنشائيّته، وإعادة ترتيب العلاقة به، كلّما تعلّق الأمر بترجمته. وعسى أن يكون هذا الكتاب «القرآن الأمازيغي» دافعا إلى إعادة ترتيب العلاقة بالنصّ القرآني؛ من منظور اللغات أو اللهجات الأخرى التي يتكلّمها مسلمون غير عرب.
_______
*القدس العربي

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *