قيس مجيد المولى
هناك علاقة ما بين المكان كحالة جمعية، أي ضمن امتداد الجغرافيا الشعرية في ذات الشاعر، وكذا موصلات المكان ضمن حدوده التعريفية وخارج تلك الحدود.
ويبدو أن مهمة الولوج الى البعد اللامنظور يقتضي الإستعانة بالسجل التذكري وقدراته البيانية والإستدلالية لإقامة هيكلية النص وحسب ما يقتضيه الشكل المعماري لطبيعة تداخلات بنيته من حيث احتساب موضوعاته الظاهرية أو الباطنية للإجابة على لغز الكلمات عبر دلالات جديدة أو بتفسيرها عبر روافدها الجمالية، لخلق استجابات الشمول العاطفي والنفسي للتمتع بالزاوية التي يختارها الشاعر لمجانسة مكانه، والإنتقال الى عالمه الشعري بالمزايا التي تُرى بأنها مزايا مفيدة ونافعة.
ضمن أبعد من ذلك الإطار وبشعرية خالصة وبجو من الموسيقى اللونية قدمَ عباس بيضون قصيدة “صُور” عبر ثلاث وقفات أسمى الأولى “البحر”، والثانية أسماها بـــ “صور”، والثالثة بــ “الخروج”، وبما أن هذه الوقفات الثلاث تعطي بعضها للبعض كوسيلة من وسائل التكيف المكاني، وأحياناً وسيلة من وسائل الإمتداد الزمني فأن اللحظات شكلت لها مساربها التي تتفتح على أشكال الموجودات الحية أو غير الحية كــ “علاقة الحجر بالبحر، علاقة الخشب بالمواقد، الليل بالأصوات، الأحياء المائية بالأعماق والضفاف، علاقة الرمل ومسمى الساحل، البحارة برؤيا اليابسة، أحجار المدينة السود وطيورها المهاجرة ..”.
ولكي تكتمل هوية صُور المدينة أوجد الشاعر دالات ذات أبعاد متنوعة كونه أراد الإشارةَ الى أن مدينته ليست مدينة أحادية المعنى، فهي ضمن ما تعنيه (القارب، السماء، مدينة الكلاب الجائعة، المدينة التي تغلي بالفئران، الدم، النسيم، البارود، الأعمدة، العجلات، ملح المائدة …”، والكثير والمتنوع من المفردات التي تقدمت بالصور الشعرية إلى أنساقها المُغرية ولازمت معطياتها وحاجات النص لوجودها كحالة محفزة للمشهد البصري ومخرجاته للإنتقال الى مشاهد ذهنية:
من أنا لأدلكم على الأحجار التي ولدنا عليها كالسحالي،
و….
كنا رمليين حين أوينا الى الشطوط وتركنا أنفسنا لغاسلي الرمل فحفونا بالزبد الذي اختمرَ في نسيم الليل، وخرجنا من بيوضنا تحت موجة،
و….
ها هنا تربض مدن قاتمة كهياكل حيتان وزواحف بصقتها الضفافُ، ترقدُ كالرتيلاء المتحجرة تحت عرش البحر. تنطيق عليها عقودها وقناطرها وجريد رخامها، وتُخص بمائها السري.
نجد وضمن معالجة موضوعاته وفي وقفته الأولى في “البحر” نجد أن عباس بيضون لا يحرك نصه ضمن موجودات البحر وضمن طبيعته، لأنه يرى أن هناك كما ذكرنا معضلة جمعية، هناك نتاج لحكايات تحتاج الى الإكتمال، وهناك نماء سلبي في خبايا الشعور في دهاليز العواطف والحواس، ولذلك لا يخاطب الأشياء بوقائعها في الوقت الذي يسعى الى أن تكون الصورة الشعرية بالغة التأثير سريعة المعطى، تقوم على التجاور التخيلي وميزات الوعي الحياتي فيما تشكله الجماعات من أنماط سلوكية وقيم إنسانية عند التعبير عن حاجاتها المادية والروحية:
إن هذا الصباح المرجوم كالوردة الناشفة ليس لنا
إن الأفواه محطمة على الوسائد
والقُبل مقصوصة من جذورها
والهواء الفولاذي قاس على البصر والشعاع
من هنا يبدأ بيضون بالدخول الى “صُور” في وضع شبيه بالأوضاع الميثيولوجية، لكنها لا تنتمي الى الأساطير، فكل شيء له ظاهرياته، ومهما كانت تلك الظاهراتية في ولوجها عالمه، فلا بد من وجودها ضمن سياقاتها الجدلية، وبالتالي عملَ على تهشيم موارد المخرجات ومنحَ مناخاتها قدرا من التعويضية في تتبع محاكاته لأرض صُور، لمياهها، لسقوفها، ليومها المغبر مرة بالبارود، ومرة بظلال الرمال.
وهنا يبدأُ مراجعاته ومدينته سواء من خلال ثقوب أحلامه أو من خلال دموع البحر كي تستمر فكرته في الحصول على قراءة موسعة لخان المسافرين والنجوم الكبيرة وللبحارة الذين يتساقطون على السلالم:
على القوارب المبتعدة
كنا نرى السماء الواسعة
ونغني ونتناسل
كحشرات الكروم
نرقص في النسيم الخفيف
ونرفعُ قصائد حبٍ
للواتي لا يصعدنَ للشرفات
إن المعطى الوجداني لدى عباس بيضون يعني دورة إحلالية ما بين المناسب واللا متناسب، وبالضد اللامتناسب في المناسب، فهو يستفيد من الدافع إفادة مقننة، وكأنه يجري تمرينات استذكارية لطرد رواسبها أي رواسب تلك الذكريات، وتراه ضمن نصه متتبعا للأثر المفقود ضمن الثلاثية التلازمية “البحر – صُور – الخروج”، ولذلك فقد قدمَ منجزه الشهيّ حين نجح في هزّ السحاب بالعصا، وسيّرَ المراكبَ بأوراق الصفصاف.
الميدل ايست أونلاين