نساء الصبر في’ريام وكفى’ للعراقية هدية حسين


ممدوح فراج النابي

على غير الرّوايات التي يكتبها روائيون وروئيات عراقيات في الفترة الأخيرة، تأتي رواية الكاتبة هدية حسين “ريام وكفى” الصّادرة عن المؤسّسة العربية للدراسات والنشر 2014، القائمة الطويلة لجائزة البوكر العربية 2015، مغايرة لتلك التيمات التي صارت تَسِمُ الأدب العراقي مؤخّرًا حيث جحيم وأهوال الحرب، وشتات المنافي والإقصاء، فالرواية تتناول حياة أربعة نساء من أسرة واحدة وحّدتهن صلابة الأم وفرّقهن القهر. قدمتهن الكاتبة كنماذج للطبقة الوسطى داخل المجتمع العراقيّ، إلا أن الصّورة جاءت مختزلة لهذه الطبقة، وغير مُعبِّرة عمّا عانته في ظلِّ النظام السّابق.

لم تغفل السّاردة الواقع السِّياسي المُضْطَرِم الذي عاشته العراق، فجاء في إشارات دالة ممثلّاً في صورة وَأْد أنوثة فاطمة انتظارًا لزوجها الذي ذهب إلى الحرب ولم يَعُدْ، فرفضت أسرتها أن ترتبط بآخر امتثالاً للأعراف، وأيضًا في صورة القمع الذي مارسته السلطة على جارها هشام، أو في صورة المصادرة والرقابة كما في حكاية كتاب فيّاض عن “تاريخ البغاء في العالم العربي”، صاحب المكتبة التي ارتبطت به ريام بعلاقة حبٍّ لم يكتب لها الدوام، وأقساها كانت صورة إعدام ريحان الذي اتّهمه النظام بالعمالة.
المواضعات الاجتماعية والقهر
تقف السّاردة عند الحيوات الداخليّة لشخصيتها وما عانته من الرّجل والمرأة على حدّ سواء، في ظل مواضعات اجتماعية وأعراف فاعلة، لا تعترف بخلفة البنات، حتى صارت الثلاث فراشات كما أطلقت الأم سمر الفضلى على بناتها (هند، صابرين، ريام أو كفى) هنّ الشوكة التي تنغص حياة الأم من الزوج الذي اختزلها في صورة أمّ البنات، وكذلك من الجدّة مسعودة التي وجدت ضالتها في الأمثولة الشعبية والأغاني لتزيد مِن قهرها، فتتعدّد صور القهر داخل الرواية مِن قهر المرأة بالضُّرة (ياسين / سمر)، وقهر الرجل للمرأة بالتحرُّش (سامي بريام والنعمان بصابرين) أو القهر بالغياب والانتظار (زوج فاطمة) و(نجم / ريام) إلى القهر بالسَّلبية (فيّاض / ريام). وهو ما حدا بالسّاردة لأن تسلِّم بأنّ الرِّجال “يحكموننا في حياتهم وبعد موتهم أيضًا” (ص، 124). تغدو الأم هي النموذج المثالي في الشخصيات النسائية التي استطاعت أن تقاوم كافة الضغوط التي مُورست عليها تارةً بالهروب «من عذاباتها بصوت الماكينة فتبرم مع الخيوط والرسومات خيوط على ما تلقاه في السّرّ والعلن من الزوج والجدة مسعودة» (ص، 53)، وتارة بأن «حوّلت الأشياء إلى حيوات من حولها تسند خطواتها على الأرض» وتارة ثالثة وهو ما علّمته لفراشاتها بأن: «تُقابل الإساءات والسّخرية بالابتسامات حتى ولو كانت مصطنعة» (ص، 53)، وهو الشيء الذي افتقدته صابرين بعد تحرش عمها نعمان بها، فأقدمت على الانتحار بعدما خاب ظنها فيه، وقد أحلّت عليه صورة الأب التي كانت تفتقدها، لذا لم تعف رائحة الخمرة والثوم التي كانت تفوح منه على الدوام.
الحكاية التي قدمتها السّاردة بسيطة وبلا عقدة أيضًا عن حياة ثلاث فتيات وأمهم في غياب الأب (بالمعنى المجازي والحقيقي) وكيف استطاعت الأم سمر الفضلى أن تتدبّر أمرهم بالخياطة، ثم كيف هصرتهن الحياة بإكراهاتها تارة وبإحباطاتها تارة ثانية وبفجيعتها تارة ثالثة (تحرش العمّ / انتقام نجم)، وهو ما انتهى بانتحار صابرين، ودفع بريام إلى الهروب من المكان حتى لا تلقى نفس مصير أختها. ولتفادي هذا الواقع بما فيه من قسوة الأب وذل الجدة لجأت منذ البداية إلى الكتابة كنوعٍ من الخلاص أو التحرّر لتصل به إلى نوعٍ من التخليد «أكتب قبل أن أمضي إلى زوال». الصّراع الذي عاشته مع واقعها وتمردُّها عليه منذ أن كانت صغيرة جعلها تبدأ روايتها بإعلان هويتها في إشارة إلى مقاومة قهر الأنثى فتقول: «أنا كفى ياسين الفضلى كما قرّر أبي أن يُسميني في شهادة الميلاد لتكف أمي عن إنجاب مزيد من البنات، بينما يحلو لأمي أن تناديني باسم ريام، الاسم الذي أحببته ولم يعجب أبي وجدتي مسعودة، فظلّ كلّ واحدٍ يناديني بكفَى عنادًا لأمي. أنا البنت الثالثة بعد هند الأكثر شبهًا بملامح أمي وتشبُّهًا بسلوكها … أنا النغمة النشاز بينهما، حنطية البشرة، سريعة الإثارة، بعينين ناعستين وماكرتين وبقامة متوسطة وجسد رشيق بسلوك حيّر أبي وأتعب أمي”(ص،7).
تسير الحكاية في معظمها في هذا الخيط السردي، حكاية الأب وعلاقاته بزوجتيه وتحريض الجدة، ثم وفاة زوجة الأب بهيجة ورحيل الأب حزنًا عليها، إلى انحراف أخيها محمود بسبب تشجيع جدتهم له على السّرقة، ثم انهماك الأم في الخياطة. وتتقاطع مع حكاية الأسرة، حكاية الابنة ريام فتسرد عن رغبتها في الكتابة وعن طفولتها وشقاوتها ومراهقتها التي جاءت بسرعة وعلاقتها بريحان القادم من حي فقير، ثم أمنياتها بأن تطبّق معه ما شاهدته مع بهيجة وأبيها على الفراش، وغيرتها من صديقتها عزيزة الشّقراء التي يتنافسُ حولها الصّبيان، ثم حبّها الصّامت لنجم الذيب، وفياض بائع الكتب، وأخيرًا حبُّها لجارها هشام جارها في بيت العائلة التي قامتْ بتعديلات فيه وسكنته مع فاطمة بعد محاولات سامي التحرّش بها، وتناوب الفشل في الحبِّ دفعها للتساؤل: «لماذا يغيبُ الرِّجال عن حياتي بشكل دراماتيكي؟» (ص،164). كما ترسم صورة للتغيرات التي حدثت للبيت وللشخصيات (ريحان، سامي، ونجم، وهند، وفاطمة ونجية بالحجاب، وعزيزة) وللمكان (اختفاء المكتبة).
تحطيم القوالب الشكلية
ليس ثمّة شيء جديد في الحكاية، ومن ثمّ كان الاتكاء على التقنيات الكتابية، لتخليص الرواية من فقر تيمتها، وجفاف العلاقات بين الشخصيات وبُعْد الكثير منها عن العمق والزخم الفنييْن، فلجأت إلى تحطيم المقولات السردية والتراتبية البنائية، والتلاعب بالزمن، وتداخلاته الذي أعطى قدرًا من التركيز في المتابعة والربط بين أجزاء الحكاية، كما أفسحت مجالاً لحضور القارئ ومشاركته السَّرد وهي ترسم مسارات الحكاية فتخبره عن مسار شخصياتها ومتى ستحكي عنهم، وترشده إلى خفايا سردها وحكاياتها، ومتى ستعلن عن فكِّ عقدة الشّخصيّة أو الحدث مثل حكاية الجرس الذي كان في غرفة الأب فمع أنّه موجود في بدايات الصّفحات إلا أنّها تشرح حكايته في الثلث الأخير من الرِّواية بعد عودتها إلى بيت أبيها واستقرارها فيه مع فاطمة فراحت تبوح لفاطمة بسرِّ الجرس.
لا تعتمد السَّاردة بناء الفصول أو تقسيم النص على وحدات وإنما يأتي النص كدفقة شعورية واحدة عبر منولوج داخلي، وبعض التداعيات والأحلام والحوارات المتخيّلة، وإن كان ثمّة تقاطعات داخلية تعتمدها السّاردة عبر التنجيم الذي يشير إلى انتهاء وحدة وبداية أخرى، وهو ما جعل النص بناءً واحدًا، بتأثيراته النفسيّة المختلفة. كما أنَّ السّردَ قائم على التساؤلات التي تغوص وتنبش في دفاتر الماضي لا من أجل محاكمته بقدر استنطاقه فتأتي الأسئلة عن النجم الغائب ولماذا ضلّ المسار، إلى سؤال الهوية وتوازيه مع سؤال الكتابة «لماذا أكتب عن تلك الأيام وأستحضر أرواح من ماتوا؟» (ص، 56)، وأيضًا التساؤلات الحائرة مع نجم الذيب عن ماضيه وهروبه من الإجابة، ثمّ عن مصيره. وأسئلة الخيانة والعالم الملوّث، وأسئلة أخرى تتصلُ بانتحار صابرين وقدومها في الحلم: «هل نحن موتى وهي الحيّةُ بعد موتها؟» وأسئلة الفضول التي تتعلّق بجارها هشام وعن طبيعة عمله وعن اختفائه، وبعضها يأتي كمواجهة للذات مثل: ما الذي أريده من هذا الرجل بالضبط؟ والبعض الأخر يكشف عن حالة الفراغ العاطفي: “ماذا أفعل كي أملأ فراغ روحي”.
وما بين أحلام اليقظة والنوم والسّؤال يتراوح السّرد الذي ينتهي بتساؤلات الخوف: «هل يمكن أن أكون قد دفنتُ رغباتي دون أنْ أدري. وهل ستنتهي فصول حياتي في هذا البيت القديم بذكري هنا وذكرى هناك؟ لماذا لا تتساقطُ أوراق الذكريات القديمة فتجدّد شجرة رأسي أوراقها بأخرى نابضة بالحياة، أنا لا أريد لجسدي أن يتحوّل إلى صفيحٍ بارد لكني أيضًا لا أريد أن أندفع لمجرد الشعور بحاجتي لرجل؟» (ص،147)، وفي ظل حالة عدم اليقين في الجواب انتهت الشخصية إلى قرار الرّحيل حيث جمعت ملابسها وأوراقها وغادرت المنزل بحثًا عن طريق البداية وهي الإيجابية الوحيدة لها. كما توظف السّاردة التراث العراقي فتستدعي أغاني شعبية تراثية، وأغاني عفيفة إسكندر وعبد الحليم ونجاة، وهناك أيضًا الأمثولات الشعبية التي تعكس ثقافة شعبية تكرس لقهر المرأة مثل “الضرة مضرة” و”موت يا كديش لمّن يجيلك الحشيش”. كلّ هذا لم يشفع لبساطة الحكاية التي تغدو أقرب لحديث الجارات، منها إلى حكاية خيالية، والأهم خلوها من الرِّسالة التي يتبناها الأدب بصفة عامة.
العرب

شاهد أيضاً

فصل من سيرة عبد الجبار الرفاعي

(ثقافات)                       الكاتب إنسان مُتبرع للبشرية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *