“المطبخ”.. باب سحري إلى عالم الكتابة!



سمر نور

الطهي إبداع من نوع خاص، يتجلى فيه اختلاف الثقافات، وتعمل فيه كل الحواس، فن الشغف بالحياة والاحتفاء بها، مع تحضر الشعوب، لم يعد “الطبخ” مجرد نشاطا يوميا ضروريا من أجل العيش، بل صار، أيضًا ، محرضا على الجمال، وفي الكتابة الابداعية ، استخدم فعل الطهي بكل معانيه، ليثري الكتابة ويمدها بروح مختلفة، روح نابعة من رونق الألوان وسحر الملمس، وبهجة الروائح. استخلصت الكتابة الابداعية من “المطبخ” هذه الحالة الخاص لتحوله إلي رصد لمتعة التجربة أحيانا أوإنعكاس للحالة النفسية لبطل العمل، وكان دائما وسيلة لمحاربة الوحدة والفقد وبديلا للحب، وكان، أيضًا، محرضا للدراسة والبحث، قدمت الروائية التشيلية الأشهر “ايزابيل الليندي” كتابها “أفروديت” لتدمج بين ذاكرتها الحسية وبين وصفات الأكل والبحث في تاريخ الطعام وفنه، ولم تخلو أعمال الليندي الروائية من اهتمامها بالمطبخ ودلالته وارتباطه بثقافتها، كما استخدمت الروائية المكسيكية “لورا إيسكابل” المطبخ بمعناه السحري في روايتها “الماء كالشوكولاته”، فالبطلة التي تفتقد الحب تصنع أكلاتها التي تؤثر في البشر وتصنع المعجزات، ليصبح المطبخ مدخلا للواقعية السحرية بينما كان الواقع المعاش هو مدخل الكاتبة الامريكية “اليزابيث جلبرت” إلى عالم الطبخ في سيرتها الذاتية “طعام صلاة حب” خلال محاولتها البحث عن ذاتها تتوقف في ايطاليا لتتذوق كل مأكولات البلد الساحرة وتنهي رحلتها بحفلة وداع مع أصدقائها فيتفنن في الطبخ كاحتفاء بحياتها هناك عبر تجربة الفعل ذاته، وربما لم تبتعد المدونة الكندية “جولي باول” عن نفس الهدف، حين كتبت بشكل يومي عن تجربتها مع طبخ وصفات الطباخة الشهيرة في الاربعينات جوليا تشايلد وسردت في المدونة، التي تحولت إلى كتاب تحت عنوان “جوليا وجولي”، تجربتها التي واجهت بها احساسها بالفشل وعدم التآلف مع عملها وزوجها، وكذلك حاربت البطلة الروائية “مكياج” مشاعر الفقد والوحدة بالاحتماء بالمكان الذي اختارته الروائية اليابانية “بنانا يوشيموتو” عنوانا لروايتها “المطبخ”.

المطبخ يحتفي بالوحدة!
من نفس المنطلق، الوحدة والفقد، بدأت الروائية والقاصة المصرية “أمنية طلعت” في كتابة نصوص مجموعتها القصصية “طبيخ الوحدة”، منطلقة من تجربة شخصية، رغم أن الحكايات لا علاقة مباشرة لها بالتجربة، نصوص تتخذ من فعل الطبخ ملاذا من الفقد وشريكا للوحدة، وتقول أمنية: كان المطبخ بالنسبة لي كشف ومساحة للتطهر بعد أزمة تسببت في حالة انكسار نفسي أثناء وجودي في دبي، وظللت لأكثر من ثلاث سنين أتخطى أزمتي عبر علاقتي بالطبخ لأصل إلى السعادة والاستمتاع بحياتي، حالة الحب والمتعة والبهجة والحميمية ترتبط باجتماعنا حول ما يخرج من المطبخ، اكتشفت هذا عبر تجربتي الشخصية فكتبت عن بشر يعانون مثلي ويعلنون ببساطة أنهم يستطعون الاكتفاء بذواتهم ويحتفون بوحدتهم. كل نص في مجموعتها القصصية يحتفي بطهي نوع من المأكولات ويعبر عن أزمة بطلة العمل التي تواجهها عبر تفاصيل فن الطهي وبهجته.
حيز خاص بالمرأة وحدها!
بحثت أمنية، اثناء كتابة مجموعتها، عن كتابات إبداعية عربية تناولت تفاصيل فن الطبخ فلم تجد، وهو ما تؤكده الناقدة د. شيرين أبو النجا قائلة: المطبخ بشكل عام ينظر إليه في ثقافتنا نظرة دونية باعتباره منتمي للمجال الخاص بالمرأة، بالتالي تم إلغاء هذا الحيز المكاني بما يتضمنه من أنشطة ولم يظهر وأختفى تماما عن الكتابة الابداعية في العالم العربي، رغم إنه يدخل في نطاق الإبداع، ونجده أكثر في أدب أمريكا اللاتينية وفرنسا.
سحر التفاصيل المفقودة!
يحتفي الروائي عزت القمحاوي في أعماله دائما بالحواس مما يجعل فن الطهي مجالا لاهتمامه، ويعمل على مشروع كتاب بعنوان “طبخ العاذب” يجمع بين السرد والسيرة ووصفات الأكل، ويجد إن غياب المطبخ في الكتابة العربية يعود إلى عدم احتفاء الثقافة العربية بالحواس، واعتبارها الطعام أمرا بديهيا والطبخ أمرا عاديا وغير هام، فلم يشر في التراث العربي القديم للطبخ كسلوك انساني، بل أن الأكل في التراث العربي يعود لخيال الصحراء حيث لا يهتم سوى بالوفرة، مستدلا بقصة “الحمال والثلاث بنات” في ألف ليلة وليلة والتي اهتمت بفعل التسوق، ويشير في الأدب الحديث إلى رواية “أيام الانسان السبعة” لعبد الحكيم قاسم والتي استخدم الخبيز فيها باعتباره جزء طقسي من الرحلة الصوفية للسيد البدوي، ويؤكد القمحاوي أن نظرة الثقافة العربية للمطبخ على العكس من الثقافة الفرنسية، مشيرا إلى رواية “البحث عن الزمن المفقود” لمارسيل بروست حيث بها مساحات واسعة من وصف أطباق الطعام في إطار الاهتمام بالتفاصيل في العمل الروائي ويضيف: في النصوص العربية لن تجد اهتمام بالرقص أو الطبخ، لانه ينقصنا الاحتفاء بالتفاصيل فقد تقرأين رواية عربية كاملة بلا ريح تهب أو وصف لسقوط المطر، مجرد أحداث متراصة بلا تأمل، في التفاصيل تدخل عملية الطبخ كأحد أشكال ممارسة المتعة، فالكاتب لا يهتم بالمطبخ لذاته.
التيمة لا تتنتج أدبا!
للروائي مصطفى ذكري قصة بعنوان “مرآة 202″، وصف في عدد من الصفحات تفاصيل تقشير التوم وتقطيعه كمعادل لحالة الفوبيا عند البطل ومعاناته مع الموت ورسم لطبيعة شخصيته، وهو ما يصفه ذكري بالارتباط مع اللحظة الدرامية، مؤكدا إن الاندماج مع تفاصيل الطهي قد تغلب اللحظة الدرامية، فهو لا يجد معنى للتركيز مثلا على الروائح لاستقطاب القراء، فالطبخ من وجهة نظره، كفكرة، إهانة للكتابة وأحيانا يستخدم لغرض تجاري يحول الكتابة إلى منطقة أخرى، ويقول: الأدب يظلم حين يعتمد على فكرة على الطريقة الأمريكية، والأفكار في الأدب لابد من تكسيرها وتفتتها وتحويلها لعجينة أخرى حتى لا تسيطر على النص.
“الطبخ” كفعل موازي للكتابة
احتفى الشاعر الراحل محمود درويش بصناعة فنجان قهوته في كتابه “ذاكرة للنسيان” والتي تصفها الشاعرة د.فاطمة قنديل” بأنها كتابة عبقرية بلغة حسية تجعلك تشم رائحة القهوة، ورغم ذلك فهي لا تتذكر أستخدام المطبخ في كتابتها، لانها تجده فعل ابداعي موازي للكتابة، مثل الموسيقى وتقول عن ذلك: لا أحب الاستماع للموسيقى أثناء الكتابة وكذلك أثناء الطهي، أصوات تقطيع الطعام ونضجه تكفيني، فأفضل الصمت حتى استغرق فيما أفعل، وكذلك حين أكتب قصيدة أتعمد تفكيك الصوت فيها، لانني أتعامل مع الفكرة في النص وهو صامت بلا موسيقى، مثل الطبخ تماما، فالاستغراق في الحالتين هو إبداع. 
أخبار اليوم

شاهد أيضاً

أبورياش: المثقف معني بكل شيء في وطنه وعليه إشعال المزيد من الشموع لإنارة الطريق

الأديب موسى أبو رياش: المثقف معني بكل شيء في وطنه وعليه إشعال المزيد من الشموع …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *