*زليخة أبو ريشة
منذ 1987 رأيتُ الشاعر والناقد عبدالله رضوان في المشهد الثقافي فاعلاً ومتحركاً، ومع السنين ازداد التصاقاً بمعنى الصداقة، وأنا أراه يتقاعد من وزارة التربية كمدير مدرسة يستطيعُ بطوله السامق أن يرى آخر طالب في طابور الصباح. فهو على نحوٍ ما خرج من تخصّصه الجامعي في الجغرافية إلى حقل الأدب، مخلصاً في انصرافه إليه، حتى قادته خطاه إلى وزارة الثقافة فبقي فيها مديراً عدداً قليلاً من السنين، كادت تؤذيه في روحه. وكان دائم القول لي: أريد أن أشتغل ثقافة، أريد أن أشتغل ثقافة. حتى ذهبتْ سيرته الذاتية إلى أمين عمان آنذاك الدكتور ممدوح العبادي، عبر وسيطٍ يقدِّرُ الثقافة ويحترم أهلها. وهكذا دخل الشاعر والناقد إلى أمانة عمان، وأدخل معه إليها الثقافة والهمّ الثقافي، فأوجد بقرار شجاع من أمينها وتحيّز واضح إلى حقل لطالما تعثّرت في معالجته وزارتُه، الدائرة الثقافيّة، التي قامت آنئذ بفعل ثقافيّ يوازي وزارة؛ مهرجانات وندواتٍ على مدار العام، ودارِ نشرٍ ترفد المكتبة العربية، ودعم الروابط والمنظمات والمهرجانات الثقافية. وكان الدكتور ممدوح العبادي دائم الشكر لمن دلَّه على هذه الثروة الوطنيّة التي أوجدت ذراعاً للثقافة في بلدية العاصمة، مذكّرة بتاريخ عريق وقديم للأمانة في ستينات القرن الماضي حيث كانت منبراً وحيداً يلتقي جمهور المثقفين والمتعلمين فيه بأعلام الوطن العربيّ، أمثال جبرائيل جبور، وميخائيل نعيمة، وعائشة عبدالرحمن (بنت الشاطئ)، وناصر الدين الأسد، وعبدالرحمن ياغي وغيرهم.
ولكنّ مقام عبدالله لن يطول في “الأمانة” بعد أن لفحتها ريحُ تغيير مفاجئة ومزعجة. ولذلك قصةٌ غريبةٌ ومؤلمة تنتهي بإقصاء عبدالله.
غير أنّ الناشطة الاجتماعية السيدة هيفاء البشير، التي تميز القمح من زوانه، التقطت نبوغَ الرجل فاستأثرت به في منتدى الرواد الكبار، فكان ما نعرفُ من برامجه التي لا تكلّ ولا تملّ، واستقطابه لأهل الأدب، وجعل المنتدى لا وجهةً لكبار السنّ فحسب، بل في صميم معترك المسألة وطرفاً فيها. وقد احتفى بصورة خاصّة بالإبداع والنقد الأدبيّ، كما احتفى بأهلهما.
إلا أنّ مسيرة عبدالله رضوان في الثقافة لم تقتصر على ما ذكرتُ، ففي أثناء إداراته الثلاث الأُوَل؛ في التربية ووزارة الثقافة وأمانة عمان، كان شديد الالتزام بدورٍ للمثقّف فاعلٍ ومتجدِّد. فكان عضواً شبه دائم في الهيئة الإداريّة لرابطة الكتاب، وعضواً وأمين سر لجنة الشعر معنا في مهرجان جرش لعدد من السنوات، وعضواً معنا في مجموعة “منتدى عمان” التي استضافتها في دارتها على مدى عام ونيّف الأستاذة ليلى شرف، بعد أن أُغلقت الرابطة بقرار من الحاكم العسكري، ولم تعد إلا بعد عودة البرلمان العام 1989. وفي جرش وبيت الأستاذة شرف توثّقت معرفتي وصداقتي لعددٍ من الشعراء والأدباء كان منهم عبدالله رضوان. وفي هذا المنتجَع كنا جميعاً نختبرُ أفقاً راقياً من التلاقح الثقافيّ، قرّب بين معظمنا، إلى أن فرّق بيننا اختلاف المشارب أو الموت الذي أعدُّه عدواً شخصياً لتجرُّئه على أصدقائي وأحبّتي.
معرفة عبدالله كانت غنىً لتجربتي الإنسانية، فمن أهمِّ صفاته في الإدارة الثقافيّة الإيجابيّةُ واتخاذُ القرار الحكيم السريع، وتجنُّبه الحفر في السّلبيات. ومن أهم صفاته الإنسانية الوفاء والصدق مع مراوغة لطيفة ومكشوفة، وأنه كائنٌ مُحبّ. وقد خبرتُه واختبرتُه فيها جميعاً. وعلى ذلك أشهد، ولرحيله المفاجئ أنا شديدة الأسى.
يا عبدالله! لقد بكّرت…
كنتُ ادَّخرتُكَ لرثائي!
_______
*الغد