طقوس وعادات غريبة يمارسها الكتّاب ليبدعوا



*استطلاع :عاصم الشيدي

استغربت الفتاة الشابة عندما أخبرها كاتب عماني أنه لا يستطيع الكتابة إلا بقلم سائل أنيق وصفه لها، وفي ظروف معينة في غرفة الكتابة ليس آخر الضوء الخافت.
فغرت فاها وقالت هل أنت جاد فيما تقول؟ ضحك ثم قال: هل تعلمين أن الشاعر الأمريكي «ادجاربو» كان يضع قطا على كتفه أثناء الكتابة.
والأديب النرويجي أبسن كان يضع أمامه صورة للأديب (سترندبرج) وهو أعدى أعدائه، وكان يقول: إنما أردت أن أغيظه وهو يتفرج على إبداعي قبل نشره على الناس! يمر الكاتب بحالة من المعاناة تسبق مرحلة الكتابة، تختلف درجات صعوبتها من كاتب إلى آخر.
لى أن جزءا كبيرا من هذه المعاناة له علاقة بالعادات التي وضع الكاتب نفسه خلالها، لكنها مع الوقت ومع تطور التجربة صارت جزءا من معاناة الكتابة التي لا تأتي دون توفرها.
قد تبدو تفاصيل بسيطة ومألوفة لكنها في الجوهر تبسط سطوة كبيرة على الكاتب.
الكاتبة البريطانية جي. كي. رولينغ على سبيل المثال وهي كاتبة سلسلة هاري بوتر الشهيرة على مستوى العالم تكتب رواياتها على أوراق مقسمة إلى مربعات وكأنها «حروز» وتمائم..
ثم بعد ذلك تقوم بجمع الرواية في تسلسل واحد..
وللقارئ أن يتصور حجم الجهد وحجم المعاناة التي عليها تحمّلها وهي تقوم بجمع مسودة ما كتبت..
لكنها لا تستطيع التخلص من كل تلك العادات الكتابية.
الروائي الأمريكي إرنست همينجواي صاحب نوبل كان يصعد في أعلى منزله ويكتب بالقلم الرصاص وهو واقف ومنتعل حذاء أكبر من مقاسه.
وقرأت أن الروائي البرازيلي باولو كويلو، مؤلف الرواية الشهيرة الخيميائي، «يكتب بريشة بيضاء، يكتب دفعة واحدة، ولا يتوقف عن الكتابة إلا عندما ينهي الخاتمة.
قد يأخذ السطر الأول والفقرة الأولى منه مجهوداً كبيراً إلا أنه عادةً ما يكتب بعدها بشكل سريع.
وهكذا فإن الكتاب يستغرق منه ما يقارب شهراً من الكتابة المتواصلة».!!!
أما طقوس الكتابة لدى ماركيز فهي كما نشرتها مجلة فرنسية مرة تتمثل بجدولة ساعات الكتابة، فقد كان يخصص ساعات محددة للكتابة بشكل يومي، فيكتب من الساعة السادسة صباحاً حتى الثانية ظهراً.
وكان يركز على الكتابة بشكل يوميّ، لما كان يواجهه من صعوبة في الكتابة إن انقطع عنها في اليوم السابق وتضيف الدورية الفرنسية متحدثة عن ماركيز «في شبابه كان يدخن بكثرة عند الكتابة، معتبراً أن التدخين عامل من عوامل اليقظة الكتابية.
وعندما أصبح ماركيز روائياً محترفاً بدأ يكتب ببطء وتأنٍ أكبر.
وكان يعتبر الفصل الأول من الرواية هو الأكثر صعوبة وشقاءً، فقد كان يستغرق منه الفصل الأول لوحده عاماً من الكتابة، وعندما كان ينتهي منه ينجز ما تبقّى من الكتاب بسرعة». أما الروائي والصحفي البيروفي يوسا فيكتب نصه أولا على الورق ثم يعطي النص لمساعدته التي تقوم بصفه على جهاز الحاسب الآلي وتعيده له للمراجعة.
وعربيا فإن الروائي المصري نجيب محفوظ كان المقهى هو المحفز على الكتابة لديه بل إن أغلب شخصياته أخذها من الحياة التي تدور في مقاهي القاهرة وحولها.
وكان يبدع في الكتابة صيفا وشتاء.
كان محفوظ يستمع إلى الموسيقى قبل الكتابة، أما أثناء الكتابة فكان يشرب القهوة ويدخن بشراهة.
وأما الماغوط فقد كان يكتب ويستمتع بالكتابة عندما يكتب بقلم حبر جميل على دفتر أنيق.
أما نزار قباني، فكان يكتب على ورق ملّون أصفر أو زهري وكان يعيد الكتابة على الورقة الواحدة عدّة مرات، وينفصل تماماً عن كل ما هو محيط به حتى ينهي كتابة القصيدة.
أما الشاعر الكبير محمود درويش فلم يستخدم الحاسب الآلي في كتابته أبدا، وكان يكتب ثم يمزق الأوراق ثم يعود للكتابة ثانية ويستمر مسلسل تمزيق الأوراق طويلا قبل أن يقتنع بما يكتبه.
هنا نقرأ طقوس الكتابة لدى ثلاثة من بين الأسماء المبدعة في السلطنة في مجالي السرد والشعر..
تفاصيل قد تبدو عادية وقد تبدو أيضا غريبة..
ولكنها الكتابة تلح أحيانا على صاحبها بكل ذلك.
فاطمة الشيدي/حول طقوس الكتابة –
لحظة الكتابة تشبه مخاضا عسيرا، ولها طقوس استثنائية أو عادات سرية، فنحن لا نكتب من فراغ، وعادة ما تجبرنا أعصابنا على مراقصة الجرح، لذا فعني لا أملك أن أشيح بوجهي خارج الارتباك الداخلي الموجع الذي تسببه لحظة الكتابة الأولى، حيث أشعر في تلك اللحظة أن ثمة شيئا ما قاسيا يجبرني على تتبع حالة الجزع التي تعتريني غالبا، وتتصاعد في رأسي هذيانا، أشعر أن ثمة ما يستيقظ فيّ، يقتاتني بنهم، أشعر بي ممتلئة بشكل يصعب معه الاستمرار، عادة تكون مشاعري متحفّزة على أكمل حالات التربص والنضج، كثيرا ما أشعر أني حزينة، أو سعيدة، أو متوترة، أو غاضبة
بشكل أكثر من المحتمل وأرغب في الراحة.
قبل كتابة أي نص ينتابني شيء يشبه المخاض، لذا فكلي يصبح منتظرا لحالة ولادة جديدة، بكل ألمها ورغبة التخلص، والانصياع التام لطقوس الألم، وكلما شعرت بهذه الحالة أفضل الاختباء عن الآخرين، أشعر بي منتفخة بما لا يسمح لي برؤية أحد، لذا أفضل الهروب للداخل قصيا، أمارس العزلة بافتتان مهيب، أحبس أنفاسي توجسا وانتظارا بعيدا عن الجميع. وثمة خوف ما، وتوجس بألا يأتي هذا النص. ربما ليس رغبة في النص قدر ما هي الرغبة في التخلص من مضاعفات حالات الانتظار، شيء يشبه انتظار الناس للمطر، والخوف أن لا يجيء فتزداد حالات التصحر والجفاف.
عند الشعور بهذه الحالة التي تتصاعد في احتدامها المؤذي، أهرب للداخل تماما، لأقصى بقعة في العالم الحقيقي والنفسي، ألج أضيق مكان ممكن مني، لا بأس بالسكون طويلا تحت الغطاء، أو تحت طاولة الكتابة، أشعر بالرغبة في البكاء؛ لكن هذا لا يحدث عادة، لأن النص هو البديل، ولو حدث ذات مرة وبكيت، فلا نص يولد حيث تتحول الكلمات ماءً طاهرا يغسلني برفق أكثر من ولادة القصيدة الجارحة .
من أظرف ما قد يحدث لحظة الكتابة كطقس (غير سوي) الميل للفوضى في كل شيء، في الهيئة التي غالبا ما تكون أشبه بشكل جنية (هبت لتسرق الحلكة من جنبات الطرق، ولتبعث شيئا من رائحة الجزع في أرواح منبسطة)، المكان أيضا لابد أن يكون فوضويا بشكل محرّض على الكتابة، ولا بأس بالكثير من البعثرة والأوراق والروائح ربما، أليس الشعر مادة تهرب لنا من وادي عبقر، بواسطة الجن الذي لا أظنهم يحبون الجمال والطيب.
كتابة النص ليست قرارا لكنها حالة، والطقس المصاحب للحظة إشراقة النص ليس ترفا، لكنه جزء من ذلك النص، ومخاض الكتابة أو لحظة الميلاد العسر للدفقة الشعورية الأولى؛ هي حالة شعور بالاكتمال بعد نقص، والتخفف بعد امتلاء، إنه حالة امتثال لشيء أقوى منا؛ رغبة بالهدوء النسبي بعد ذلك.
مخاض الكتابة أو الدفق (الشعوري/الشعري) الأول هو البداية لنص بهي، تزينه بعد ذلك الصنعة، وتحكمه عقلنة الكتابة، ومعالجة زوائد النص، وتفتيت مساماته، وترميم شقوقه، وتشكيله من قبل كاتبه، ليصبح في حالة يصلح فيها، بأن يرى الضوء، ويمارس حضوره الحقيقي، بين يدي القارئ أو المتلقي.
عبدالله حبيب/ ليل، وصمت، وتدخين شره، وجِسْم طابوقةٌ، 
بالنسبة لي لا أدري فيما إذا كان عليّ أن أسميها «طقوسا» أم «عادات» للكتابة، ولن نختلف على التسمية في أية حال. لكن الصمت المطبق والكامل هو أول شروط الكتابة لدي، وأنا أحسد الأصدقاء الذين يستطيعون الكتابة والقراءة في المقاهي أو المنتبذات الليلية (فأنا لا أستطيع أكثر من تصفح الصحف في تلك الأماكن). قد تأتيني صورة شعرية أو أكثر ألتقطها من مشهد المكان العام، أو فكرة لكتابة نص، لكني لا أستطيع على ما هو أكثر من ذلك، حيث شقتي هي المكان الأثير للقراءة والكتابة.
وفي الشقة حتى لو وجدت طلال مداح في غرفة المكتب وهو يغني «أحبك لو تكون حاضرا/ أحبك لو تكون هاجرا» لطلبت منه الانسحاب فوراً إلى الغرفة الأخرى وان يغلق الباب جيداً حتى لا يصلني صوت عوده الرنَّان، بل حتى ولو كانت حبيبتي موجودة في غرفة المكتب لطلبت منها بأقصى درجات اللطف المغادرة إلى مكان آخر في الشقة، وهذا يسبب بعض المشاكل الصغيرة أحياناً.
أحس بعري غريب وكامل وأنا أكتب بحيث لا أريد أن يراني أحد وأنا في حالة الكتابة، لأني أحياناً أقهقه بطريقة هستيرية، وأحياناً أنتحب بشكل طفولي، وأحياناً (إذا كنت أكتب قصة قصيرة مثلاً) أتقمص دور الشخصية في طريقة الكلام أو المشي فأذرع الغرفة جيئة وذهابا، إلخ.
يستحيل تقريباً أن أرد على أي مكالمة هاتفية وأنا أكتب إلا إذا كانت طبيعة علاقتي بالشخص المتصل عميقة بحيث تجعل التجاهل مستحيلاً، وفي هذه الحالة أرد على المكالمة مبتدئاً بالقول إني في حالة كتابة، فإن لم يكن هناك أمر طارئ هل من الممكن تأجيل المهاتفة إلى وقت آخر؟. وفي الغالب فإن الرد هو التفهم والاستجابة. ولكن العكس يحدث نادراً أحياناً حين أكون في حالة بالغة من القتامة أثناء الكتابة، وحينها أتمنى في سري أن يتصل أي أحد (ولكني لا أبادر إلى الاتصال بنفسي بأي أحد) وذلك لأخذ استراحة قصيرة من الروح المدلهمة ثم أعود إلى النص، إلا أن هذه الحالات هي استثناء للقاعدة.
أحب الكتابة في الليل أكثر من النهار (مع أني أكتب في النهار أيضاً بالطبع)، فأنا بطبعي كائن ليلي لأسباب «بايو-كيميائية» تتعلق بإصابتي المبكرة بمرض الأرق المزمن الحاد، إذ إنني أشعر بالطاقة والحيوية في الليل، وبتناقض كامل سأضيف أن الليل يشعرني بوحشة رهيبة أيضاً، بينما في النهار أشعر عموماً بالخمول، والكسل، والكساد، كائنا ما كان عدد أكواب القهوة التي أحتسي. ومن المعروف، استطراداً، عن أحد أجدادي (عبدالجليل) أنه بعد صلاة العشاء يبدأ في مخر عباب ليل الشاطئ لأنه لا يستطيع أن ينام في الليل (ولم تكن أقراصاً منوِّمة من قبيل «فاليوم»، و«أتراكس»، و«سوناتا»، و«أتيفان»، و«إيسكورت»، الخ، قد ظهرت إلى الوجود بعدُ في زمانه، وهي لا طائل كبيراً منها في أية حال)، فيقضي الليل كله في المشي والتأمل جيئة وذهاباً على الشاطئ حتى تشرق الشمس، فيعود إلى البيت كي ينام باقتصاد كبير، ويقرأ، ويكتب، ويلتقي بطلبته، ويهتم بشؤون أسرته حتى موعد صلاة العشاء، وبعد ذلك لا يراه أحد، إذ تبدأ رحلته الليلية الراجلة حتى اليوم التالي، وهكذا دواليك، حتى انه كُنِّيَ بـ«الشيخ المَشَّاي» (نسبة إلى المشي). إنه شخص محظوظ أكثر مني بالتأكيد لأنه لم يكن يعمل في جهاز الخدمة المدنية!.
وأفضل أوقات الكتابة لدي في الليل هي اللحظة التي يتغير فيها لون الأفق بالتدرج حين ينسحب الليل ويبدأ الفجر، ففي ذلك الوقت تحديداً أحس بالحياة وهي تدب في أوصالي وأوصال الكون حتى ولو كنت حزيناً. وأعتقد أنني كتبت «أجمل» نصوصي وخاصة القصيرة منها (بافتراض أنني كتبت نصوصاً «جميلة» أصلاً) في ذلك الهزيع من الوقت. لكن بسبب الارتباط بالوظيفة فإن هذا الترف لا يتاح لي كثيراً نظراً لضرورة الذهاب إلى العمل الذي «أتمتع» فيه بسمعة سيئة للغاية فيما يخص وجودي على رأس وظيفتي في الوقت المحدد لدى بداية الدوام الرسمي.
أهرش رأسي كثيراً وأنا أكتب لدرجة إدماء الفروة بصورة طفيفة أحياناً إذا كان قد مر وقت طويل منذ أن قصصت أظافر يدي لآخر مرة. وأدخن بشراهة بحيث إني أشعل السيجارة الجديدة بعقب السيجارة التي يكاد عمرها أن ينتهي، وبهذا فإنه في الكثير من كتاباتي لم أكن أحتاج إلى الولاعة إلا في إشعال السيجارة الأولى فقط. أيضاً لا بد من توفر «السوائل الليلية» أثناء الكتابة خاصة في السنوات الأخيرة، ولكن المقياس في الإسراف في معاقرتها من عدمه وأثر ذلك على ما كتبت يتم لدى قراءة النص في اليوم التالي، فإما حذف نصفه أو نحو ذلك، أو إلغائه بالكامل (وهذا نادراً ما يحدث)، أو الإبقاء عليه كما هو، أو إجراء تعديلات بسيطة عليه. وينطبق هذا على الكتابات المقاليَّة وشبه الأكاديمية التي أحاولها.
يتصلب جسدي بالكامل حين أكتب لفرط التوتر، وأشعر أن كافة أعضائي قد تحولت إلى حديد أو اسمنت عوضاً عن اللحم والشحم والدم، وأتذكر جيداً أن امرأة كانت في حياتي جاءت مرة لتدليك كتفيَّ من باب العتاب غير المباشر لطول غيابي عنها لساعات طويلة في الكتابة، ومن باب التدليل أيضاً، فإذا بها تصرخ: «حاشا لله!. أنت جسمك ما جسم بني آدم، أنت جسمك طابوقة»!. ولهذا فإني من تجربتي أعتقد أن الجسد في حالة الكتابة يمر بأطوار فيزيقية وتحولات غريبة. ومع أنه ليس لدي دليل علمي على ذلك فأنا أقول بثقة من تجربتي الضئيلة في الكتابة إنه حتى جسدي يصبح جسداً آخر حين أكتب، بحيث تتغير مواد تكوين أعضائه فعلاً.
إلى هذا فقد قلت ما قلته أعلاه عن طقوس/ عادات الكتابة لدي بالمعنى الحرفي المباشر لدى الجلوس أمام الحاسوب. لكن طقوس/ عادات الكتابة أعمق من ذلك بكثير، حيث أنها تلازمني ليل نهار حتى ولو لم أقم بها فعلياً، إلا أنها تتراكم ثم تنفجر فجأة. وسأضرب مثالين على ذلك؛ فمجموعتي الشعرية «فاطْمَة» (التي لم يكن في نيتي أصلاً أن تكون مجموعة مستقلة، ولكن الأمور ساقت نفسها بنفسها في اتجاه آخر) كتبتها في ظرف خمسة أيام بلياليها بصورة متواصلة (طبعاً باستثناء بعض الغفوات الأشبه بالإغماءات والقيلولات السريعة الأقرب إلى الغيبوبات على الكنبة المجاورة لطاولة الكتابة أو على السرير)، وذلك من دون تناول وجبة طعام واحدة طوال تلك الأيام والليالي، ولا حتى «مَزَّة»، بل الاكتفاء بالماء ومشروبات أخرى والتبغ طبعاً، هذا في الوقت الذي كان فيه عمر التجربة الفعلية بمدها وجزرها على أرض الواقع مع فاطْمَهْ/ الشخص خمس سنوات (تقريباً). ولا أدري كيف حدث هذا التلازم أو التعادل بحيث أن كل يوم وليلة من إعادة إنتاج التجربة جمالياً يوازي سنة من سنوات التجربة الفعلية. ولكنهم، في أية حال، تحدثوا في الفلسفة قديماً عن «الصدفة الموضوعيَّة».
أما المثال الثاني فهو أن الكثير من قصصي القصيرة وبعض الصور في نصوصي الشعرية مأخوذ مباشرة وبالكامل تقريباً من أحلامي أو كوابيسي (والأخيرة أكثر بكثير من الأولى) في الهجعات المضطربة التي تسمح بها حتى أقوى الأقراص المُنَوِمَة وبجرعات مضاعفة؛ فالمعروف طبيَّاً أن المصابين بمرض الأرق المزمن الحاد يقضون كل «نومهم» تقريباً وهم أسرى للمرحلة الخامسة (حيِّز الـ REM) من مراحل النوم، وهذه هي المرحلة التي تتسبب فيها الإفرازات والتفاعلات الكيميائية في الدماغ في إنتاج الأحلام والكوابيس، وذلك من دون الانتقال الطبيعي والسلس ذهاباً وعودة بين مراحل النوم الخمس كما يحدث لدى النُّوَم الأسوياء في حيِّزي الـ REM والـ NREM. ولذلك فأنا أعتبر نفسي في حالة كتابة دائمة بغض النظر عن طقوس الكتابة أو عاداتها بالمعنى الاعتيادي الذي يفهم به معظمنا الأمر.
أعتقد أن هذا بعض ما يمكن لي قوله عن طقوسي/ عاداتي الكتابية.
سليمان المعمري/«لاب توب» وأصابع ودلة شاي –
فيما يخصني لا أظن أن لي طقوساً غريبة في الكتابة . كل ما أحتاجه لاب توب وأصابع ودلة شاي إن كنتُ في البيت، أو كوب كبير منه إن كنتُ في المقهى .. بالنسبة للشاي يحلو لي أن أستعير – بشيء من التحوير- عبارة الكاتب الفرنسي بلزاك الذي أظنه أكثر الكتاب شبها بي في طقوسه الكتابية: «أنا لا أعلم الشراب المقدس الذي يذكره اليونانيون ولكني أحب أن أعتقد أنه الشاي» .. والتحوير الذي أجريتُه على كلام بلزاك يكمن في تحويل القهوة التي كان بلزاك يشرب كميات كبيرة منها أثناء الكتابة إلى شاي. ولكن حتى الشاي لا يعيقني عدم توفره إن كانت الكتابة ملحة . لا أشترط الخلوة ولا الهدوء، بل العزلة.. فـ«العزلة لا تعلمك كيف تكون وحيداً، بل كيف تكون الوحيد» كما يقول فيلسوف. فيمكن أن أكون في المقهى مثلا والمباراة تشتعل في الشاشة الكبيرة والمعلق يرغي ويزبد في حين أكون أنا في عالم آخر . عندما تلح عليك الكتابة تنساق إلى عوالمها بسهولة، ولكن عيب المقهى في هذه الحالة ليس ضجيجه، بل تطفل البعض عليك بحجة السلام في حين يرون انهماكك في عملك .. السلام في هذه الحالة حرب!. إنه يقطع استرسالك ويعيدك لعالم الواقع ويضطرك لرد السلام وعبارات المجاملة حتى يغادر هذا المتطفل.. لحظتها تقفز إلى ذهني مباشرة نصيحة الفيلسوف سيوران التي لم أجرؤ يوما على تطبيقها: «لا يستطيع أحد أن يحرس عزلته إذا لم يعرف كيف يكون بغيضا».
من نافل القول أن الكتابة يمكن أن تواتيك في أي وقت من اليوم: الصباح الباكر، منتصف النهار ، قبيل غروب الشمس، أو آخر الليل. ولكن المؤذي نفسياً أن تأتي في وقت غير مناسب، وفي وقت لم تهيئ نفسك لها فيه : في زحمة الانهماك بالوظيفة مثلا، أو عندما تكون مُنهَكاً آخر الليل. عليَّ حينها أن أختار: الانتصار للكتابة أو تجاهلها . وحصل لي الأمران بالفعل . مرات انتصرتُ للكتابة ففرحتُ وسعدتُ، ومرات تجاهلتُها فندمتُ.. وندم تجاهلها لا يضاهيه إلا ندم عطيل على قتله ديدمونة في لحظة غياب وعي. ديدمونة بعد موتها لا يمكن لعطيل أن يعيدها للحياة، حتى وإن عاد وعيه كاملا مكتملا. وكذلك الكتابة عندما تُجهض وهي في منتصف المخاض أو بدايته. لا يمكن أن تعود .. وإذا عادت لا يمكن أن تكون بنفس صفائها كما كانت، مهما تحايلت عليها واستدرجتَها. وأنا هنا أتحدث عن الكتابة الإبداعية، وليس المقالية، فهذه يمكن استدراجها بصعوبةٍ أقل.
______
*جريدة عُمان

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *