«في الهند التقيت ذاتي» أروى الوقيان ترتحل في أعماق الإنسان


شافعي سلامة

في خضم الحضارة والتمدن وطغيان المادة ابتعد الكثير من البشر عن إنسانيتهم وتاهوا في دوامة الحياة، صار إحساسهم بالآخرين – قربوا أو بعدوا اجتماعيا أو جغرافيا – بحاجة إلى ما يعيده إلى مساره الطبيعي. 

كتاب «في الهند التقيت ذاتي» للكاتبة الكويتية المتميزة أروى الوقيان محاولة رائعة للبحث عن الإنسانية المنسية، حيث ينطوي الكتاب البسيط بلغته المباشرة والجميل بفكرته على رسالة مهمة وإنسانية للغاية مفادها «لماذا لا تكون سياحتنا في جزء منها إنسانية وتطوعية؟ إذ يمكن أن نشعر بالضجر في أفخم مكان في العالم وبالسلام في مكان فقير نمد فيه يد المساعدة للمحتاجين».
بصفة عامة ينقل لنا الكتاب، الذي جاء في 152 صفحة بالألوان من القطع الصغير من إصدار «بلاتينيوم بوك»، تجربة المؤلفة مع مجموعة تطوعية من الشباب تدعى «ماد» طرقوا بوابة الهند، ليس بهدف السياحة العادية في بلد تضرب حضارته في جذور التاريخ، وإنما لدخول مناطق وأحياء تعج بالمعوزين الذين لا يمنعهم فقرهم المدقع وشظف العيش ونقص الماديات من الأمل والابتسامة، ومحاولة مساعدتهم. 
هكذا، ينقلنا الكتاب إلى عالم مختلف في بلد المليار و200 مليون نسمة الذي يفوق من يعيشون فيه تحت خط الفقر عدد سكان كل الدول العربية مجتمعة بكثير (410 ملايين) ويشكلون ثلث فقراء العالم.
من خلال مشاهدات الوقيان ومجموعة من مقالاتها وخواطرها بالإضافة إلى بعض الصور ذات العلاقة بالموضوع وملاحظات فريق «ماد» التطوعي، نعيش تجربة تطوعية حافلة بالمواقف الإنسانية التي تقودنا لسؤال كهذا: «هل كنت سأترك هذه الطفلة التي أرادت أن تحضنني لتطبع قبلة على خدي لأنها ليست من ديني؟» وهو ما يبدي كيف أن الكتاب يفتح المجال لنظرة فلسفية شاملة تتعلق بالغوص في أعماق الإنسان ومحاولة الوقوف على ما يمكن أن يعيد إلى البشرية التعيسة في هذا الزمن المادي جزءا من سعادتها المفقودة. 
يتضح الحل لهذه المعضلة في جملة تحض على الرضا والقناعة مثل «لا تشعر بنعمك حتى تعرف ابتلاء غيرك».
أو أخرى تبغض القارئ في كل أنواع التمييز والتعالي والعنصرية مثل «نتنفس الهواء ذاته، نعيش على أرض واحدة، والله حدد ألواننا وملامحنا، فلم هذا الغرور؟ ولم العنصرية؟». 
جاء الكتاب في مجموعة من الفصول القصيرة نسبيا استهلتها الكاتبة في الغالب بمقالة أو جزء من مقالة أو خاطرة ثم ربطتها بموضوع الفصل. 
في البداية تحدثت عن رغبتها في العمل التطوعي ورحلتها للبحث عن الإنسانية، وكيف نشأت فكرة السفر ومن ثم الكتابة وكيف واجهت صعوبات منذ اليوم الأول.
بعد ذلك تأتي على ذكر يومها الأول في الهند وكيف رأت التفاوت من لحظاتها الأولى في هذا البلد الكبير يبن النظام والنظافة والمستوى المرتفع والفوضى والقذارة واختلاط الناس بالحيوانات في الشوارع، لم يفصل بين هذين العالمين سوى 15 دقيقة بالسيارة.
بعد ذلك تتحدث عن الهندوسية وطقوس تقديس الأبقار ثم عن الأسرة الهندية التي نزلوا عندها ثم انتقالهم للفندق. 
فصل تال تحدث عن زيارة الفريق لملجأ أيتام عبر طريق يمتد بين المجاري والمستنقعات والقمامة والطين، وكيف استمتعت الوقيان في نهاية هذه الزيارة بأمر صار اعتياديا في الأيام السابقة وهو تناول «مشروم روزيتو».
بعد حديث عن إنجازات حققتها الهند وتعقيب بأن هناك المزيد الذي هناك حاجة لتحقيقه، تتناول الكاتبة قضية التعليم والمدارس في «أكبر ديموقراطية في العالم»، وكيف كانت سارة التميمي – عضوة الفريق التي واجهت الكثير من الصعاب أكبرها وفاة أمها قبيل الرحلة – الأكثر فاعلية بينهم. 
صدم المتطوعون في نهاية هذه الزيارة عندما اكتشفوا أن أغلب الأمراض المتفشية في هذا المكان المتواضع أسبابها تافهة، مثل عدم ارتداء «نعال» أو عدم قدرتهم المالية على شراء بعض الأدوية رغم رخص ثمنها. 
ثم جاء وقت التبرع من دون سابق إنذار وركوب التوك توك لأول مرة، ثم زيارة الفريق للمركز الصحي المجاني والتعرف على قصته.
هذه الزيارات الصعبة لأماكن أصعب تلتها مشاهدة إحدى عجائب الدنيا السبع (تاج محل)، وتذكير بقصة هذا الصرح، ثم حديث عن الهند ومجموعة «ماد» وبعض المعلومات التاريخية. 
ثم يأتي يوم تسليم التبرعات الذي اكتشفت فيه أروى والمجموعة كيف لشخص واحد أن يصنع الكثير.
قبيل النهاية تتحدث الكاتبة عن كيف ان الكثيرين تربوا بطريقة أو بأخرى على العنصرية وأنهم لا يعرفون من الدين إلا قشوره، ثم تختم الكتاب بالحديث بإيجاز عما حدث بعد العودة إلى الكويت وكيف غيرتها الرحلة إلى الهند، وذلك بعد أن أفصحت عن أمنيتها في أن تجعل الجميع يتذوق لذة العطاء. 

مقتطفات من الكتاب 

٭ بإمكانك ان تحدث التغيير حين تنظر إلى شخص الإنسان لا شكله.
٭ في كل شخص منا شيء من العنصرية، والاعتراف بذلك هو البداية لمحاربة هذا الداء اللعين.
٭ تحقيق الحلم لا يأتي بالطرق المفروشة بالورود، العقبات والمصاعب هي الجزء الذي يجعلك تشعر بقيمة كل شيء تحصده.

كتاب يستحق التدريس

لعل القاصة باسمة العنزي كان معها كل الحق في وصفها الجميل للكتاب في تقديمها له عندما قالت «كل ما فيه خارج من القلب من دون رتوش ولا مبالغات ولا محاولات تلميع وادعاء بطولة»، وقالت عنه أيضا: «كتاب يستحق التدريس في مناهجنا لأجيال مغيبة عن واقعها الإنساني، تائهة في مدار الاستهلاك، لم تسنح لها فرصة الاقتراب من دائرة الأنين ومناطق الوجع، لم تخبر معاناة الجوعى، ولم تلمس جروح الضحايا».
الأنباء

شاهد أيضاً

أبورياش: المثقف معني بكل شيء في وطنه وعليه إشعال المزيد من الشموع لإنارة الطريق

الأديب موسى أبو رياش: المثقف معني بكل شيء في وطنه وعليه إشعال المزيد من الشموع …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *