باي الشعب


*محسن إبراهيم الشابي

خاص- ( ثقافات )

مع الفجر و في هدأة السحر ، انطلق صوت المؤذن من المسجد المجاور لمنزل الشيخ حسونة في صوت ندي رخيم مؤثر يقطع سكون المدينة النائمة بأرباضها و أسواقها و دورها و حيواناتها . الظلمة تكاد تخفي أهم معالمها ،إلا من صومعة جامع الحلفاوين الشاهقة والتي تنار على مدار السنة خصص لها الوزير الأعظم يوسف صاحب الطابع في عهد سيدي حمودة باشا وقفا وريعا يوفر لها الزيت الكافي طيلة أشهر السنة .

تململ الشيخ حسونة في فراشه، ثم التفت صوب زوجته حليمة يحركها حركات خفيفة ” قوم يا مرا النهار طلع “. ثم استعاذ من الشيطان الرجيم وبسمل وحوقل ونهض متثاقلا على غير عادته هذه المرة . توضأ في تؤدة ، وتناول لقيمات من السويق على عجل . و ارتدى أفخم ثيابه جبّة رصاصية وبلغة سوداء و شاشية حمراء ناصعة و عمامة صفراء فاقعة. 
إنه على موعد اليوم بعد صلاة الصبح مع الشيخ سالم وأعيان ربط الحلفاوين لزيارة سيدي محمد الصادق باي في قصره بباردو، لتقديم فروض الطاعة و الولاء . خاصة بعد انتفاضة العربان بجهة الشمال بقيادة علي بن غذاهم الماجري وانتصاره عليهم وجلب زعمائهم وقادتهم إلى ساحة قصر باردو حيث يربطون بسلاسل حديدية شهرا كاملا والعامة يمرون عليهم فيصفعون و يبصقون و يسبون و من يبتكر طريقة جديدة في التشفي والسخرية ينال رضى الباي و الحاشية وينال من عطاياهم وهباتهم. 
لقد شاهد الشيخ حسونة ما وقع للشيخ المكي أحد مشايخ الجامع الأعظم حين انتقد في إحدى خطبه إسراف أحمد باي في بناء قصر المحمدية ، و إصلاح الحنايا الرومانية لجلب مياه زغوان حتى قصر باردو كما احتال عليه أحد المهندسين الفرنسيين ، وزيّن له الأمر ..فلم يعجب ذلك أحمد باي ، وأمر به فاقتيد مكبلا إلى ساحة قصر باردو ، ونال ما منال من الضرب والجلد حتى أنه مات تحت التعذيب ، و وجد ذات صباح مقيدا إلى إحدى السواري وقد فارق الحياة .
خرج الشيخ حسونة مكرها يقدم رجلا ويؤخر أخرى ولكن ما باليد حيلة فسوف يفتقد الشيخ سالم والخليفة عدم وجوده إن هو تغيب هذه المرة وسيعرض نفسه للمساءلة و اللوم والعتاب و الجزر حينا، والابتزاز أحيانا أخرى، خاصة و قد انتشرت شائعة صلته بعلي بن غذاهم . 
لفحته نسائم شهر نوفبر ، مر على السبيل فأغرته المياه المنسابة من سبيل سيدي عبد السلام بالشرب فشرب حتى الارتواء رغم برودة الطقس، فحلقه جاف و ينتظره يوم طويل وتقيل. .
التحق بالصلاة وقد أقيمت ، و بسرعة اندس بين الصفوف ، كانت الآيات تصله عذبة دافئة لينة تطمئن و تنفتح لها القلوب والأرواح ** قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنتوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنّه هو الغفور الرحيم ** يا الله ما أرحمك بعبادك فلا يقفل لك باب ولا ترد طالبا ولا سائلا ولا مستجيرا أبدا، رغم زلاتنا و ذنوبنا وهفواتنا . وعادت به الذاكرة إلى إن سنوات الشباب سنوات الانطلاق والتهور حيث لا حسيب ولا رقيب ، فقد كنا نتباهى بالذنوب و المعاصي . حينها طأطأ رأسه نحو الأرض و حشره بين كتفيه حياء وخجلا .
أتمّ صلاته في سكينة وفكره مشغول ، ولم يستفق إلا على تسليم الإمام ، الذي دعا بما شاء وأمّن المصلون .
وسرعان ما خرج الجميع إلى صحن الجامع وكان الشيخ سالم واقفا بقامته المديدة بنتظر المصلين كي لا ينصرف أحدهم إلى شأن من شؤونه ، فهو بريد أن يظهر في جمع غفير لينال استحسان الباي و بطانته ، خاصة و الشخ مسعود ينتظر زلّة من زلاته كي يثب على المشيخة التي ورثها سالم أبا عن جد . فقد كان يوزع الأدوار بين سكان ربط الحلفاوين و يصلح من شأن هذا و ويطلب من ذاك تغيير عمامة بيضاء اسودت حاشيتها أو شاشية نصلت حمرتها و بان سداها.
أخيرا و مع بزوغ الشمس ، انطلق الركب حثيثا يتقدمهم الشيخ سالم والكل في نشاط وحيوية ، ما عدا الشيخ حسونة فهو في كرب عظيم و ألم شديد وهو أمام امتحان صعب فصاحبنا الذي يأتمر عليه الجمع ويكيلون له السباب والشتائم** علي بن غذاهم ** يعرفه حسونة حق المعرفة ، بل وتجمعه به صداقة قوية وصلة رحم ، وكان أقربهم إليه مودة و عشرة ، ولكن خانته الشجاعة و أنكر معرفته به حين انتشر خبر صلة القرابة التي تربطه به ، وحين سأله الشيخ سالم ذات مساء أمام الجامع عن حقيقة الشائعة ..
وعلى طول الطريق الممتد بين باب سعدون و باردو كانت الخواطر و الأفكار و الهواجس تتصارع في نفس حسونة ،و عادت به الذاكرة إلى سنوات الطفولة هناك في سهول تالة وجبالها و هضابها و روابيها . كانا يدرسان معا ، عند نفس المؤدب ، ويرعيان الشياه ويصيدان طيور الحجل ركضا على الأقدام و يلهوان بالأرجوحة على أغصان شجرة الخروب الدهرية وكان علي أكثرنا مغامرة إذ يرتفع بها عاليا حتى قمة الشجرة ويجذب أوراق الخروب ناثرا إياها في الفضاء مرددا ” جات الجوابات من تونس الخضراء جات الجوابات من عند البايات “
. وكان * علي بن غذاهم * منذ نعومة أظفاره ميالا إلى القيادة ، فكان يجمعنا أبناء الدشرة و يجعلنا على هيئة صف واحد ، ثم يتقدمنا و يمشي الجميع على إيقاع خطوة واحدة لها إيقاع منتظم ، والويل والثبور لمن يخرج عن الصف أو يتلكأ في السير ، وكثيرا ما نظم لنا حلبات المصارعة فيصرع الجميع .

كان علي هو القائد والرأس المدبر لأطفال الدشرة فكثيرا ما أغراهم بسرقة ثمار التين والمشمش و السفرجل والرومان من الحقول المجاورة . أو مشاهدة صبايا الحي يغسلن الأغطية و الملابس على ضفاف وادي تاسة و قد كشفن على سيقانهن البيضاء المكتنزة ، وكثيرا ما نجا هو أُمسك البقية . فلما بلغا سن الشباب أغرما بالفروسية و الصيد بالبندقية وكان علي لا يطلق النار إلا على الطائرة كناية على المهارة في الصيد . وكان يصطاد النسور من قمم الجبال وأغرم بهذه الطيور، حتى أنه صار يقضي الأسابيع و الأيام متبعا أثرها كما صار يفقه صفيرها و و طقطقة مناقيرها وكثيرا ما ترجم لنا لغتها وهي تغازل بعضها في الفضاء الشاسع ، كما أخبرنا ذات مرة أن النسور لا تشيخ و لا تموت فهي إذا شعرت بالعجز والهرم ارتفعت عاليا ، ثم تهوي على الأرض منتحرة فتتكسر أجنحتها و يتتطاير ريشها وتسيل الدماء من مناقرها و تتهشم رؤوسها على الصخور الكلسية فهي تأبى حياة العجز والاستكانة . وكثيرا ما ردد أ ريد أن أموت مثل هذه النسور واقفا .
وأحبّا معا أيضا فذات يوم خرجا كالعادة إلى الغابة للصيد وقد أوغلا فيها بعيدا ،فوجدا عائلة بسيطة تتركب من أبوين وبنتين آية في الحسن و الجمال رغم بساطة اللباس واللون الأسود الداكن الذي يغرق فيه المكان .
تعيش العائلة في أدغال الغابة و تعمل في صنع القطران و تقطيره ،وصنع الفحم وسرعان ما نشأت علاقة حب بريء بين الأربعة . فكثرت زيارة حسونة وعلي للعائلة وكثيرا ما ساعدا العم عثمان في أشغاله أو زودا العائلة بما غنماه من صيد وفير .

وسرعان ما تزوج الصديقان الأختين خديجة و حليمة ، و أقيمت الأفراح والمسرات ، وبقيت القرية سنين تذكر زواج علي وحسونة ، فقد كان الموسم وفيرا والخير كثيرا ،فظلت الذبائح تذبح لأسبوع كامل والكل يأتي ليأكل و خاصة الفقراء و المتسولين والمتسكعين وما أكثرهم في قريتنا . كما رقص الفرسان و أطلق البارود في الفضاء معلنا انطلاق الفرح . وغنت النسوة أغاني و أهازيج تطرب لها الأذن حتى وإن عجزت عن تبين كلماتها و مقاصدها.
________
* القصة الفائزة في ملتقى دار الثقافة ابن زيدون/ تونس 

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *