التفلسف السلفـي!


*أشرف الحزمري


حاول المفكر الأردني فهمي جدعان في ورقة تقدّم بها بعنوان “السلفية: حدودهـا وتحولاتها” لمؤتمر في الفكر العربي المعاصر من تنظيم المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب بالكويت، أن يرصد أهم السمات والخصوصيات المعرفية التي تُميّز الفكر السلفي وتعايره بأنماط أخرى من التفكير الذي ينتمي للزمن الثقافي الحديث، ومن بين ما ورد في هذه الورقة موقف السلفية من العقل، وهو موقف درج أغلب نقاد السلفية في تصنيفه على أساس تصور نمطي مفاده أن السلفية تهاجم العقل وتحاربه.
وكان من بين المُعقّبين على هذا النص، المفكر اللبناني علي حرب، وكما هي عادته في تفكيك البديهيات ورفض المُسلّمات ونقض التعريفات والتحديدات، حاول صاحب “نقد الحقيقة” أن يعترض -أمام حشد من كبار العقلانيين العرب- على مسألة الرفض السلفي للعقلانية، وفكرته تقوم على أنه يصعب القبول بفكرة أن السلفيين غير عقلانيين أو يرفضون العقل، والصواب هو أنهم يوظفونه بـ “طريقة خارقة ومدهشة”.
لو حاولنا أن نوازن بين الموقفين، سنجد أن كلا الرأيين صحيحان إذا أخذنا بتباين المعيارين؛ فالموقف السائد الذي ينحو إلى مذهب عدم نسبة السلفية إلى العقلانية يبني نظريته على جوهرية العقل، أي إنه ينطلق من أن العقل أصل وأساس الكيان الإنساني وله مبادئ وهوية ذاتية ومقومات مُحدّدة تفصله عن أمـورٍ أخرى، وأما الموقف الآخر الذي يذهب إليه علي حرب وغيره فينطوي على وجاهة نظرية إذا نحن فهمنا فكرته على أساس عدم جوهرية العقل، أي إن العقل مجرد صيرورة خصبة بدون هوية ولا محددات.
وهو توجّهٌ فلسفي صاغه طه عبد الرحمن في نظريته “التكوثر العقلي”، ويقوم على تعدد العقلانيات، أي إنه لا يوجد نظام واحد للمعقولية، وبالرغم من حصول سجال معرفي بين طه وعلي حول هذه المسألة؛ إلا أنه جدل لا يتجاوز مستوى اللغة والعبارة، والمعنى يتوحد في أن الإنسان مهما كانت طبيعة فكرته يمكنه أن يؤسسها على منظومة ذات ماهية عقلية، ويمكن لمخالفه أن يقوم بالأمر نفسه، ما يعني أن التأسيس يظل أسطوريًا دائمًا وأبدًا، وهذه القضية لا تنير لنا الموقف السلفي من العقل فحسب، بل تكشف حتى عن الجانب الجوهري من العلاقة بين التسلّف والتفلسف.
فتعريف السلفية لا يتحدد معناها إلا في إدراجها ضمن سياقات ومنظورات مختلفة، أي إنها لا تدرك هويتها إلا بوصفها اختلافًا ومغايرة لهويات إيديولوجية أخرى؛ لأجـل ذلك كأن أهم وجه دلالي شيّدته لنفسها هو نفي التفلسف، وحالة السلب هذه لم ترتبط بالفكر الفلسفي فحسب، بل ارتبطت بأنواع أخرى من النفي، مثل أن نُـعرّفها بأنها نفي للتاريخ، أو نفي لعلم الكلام، أو نفي للتصوف.
وعلاقة النفي هذه لم تصل إلى حد النقاء أو البراءة المطلقة من الفاعلية الفلسفية، بل كل نفي لا يكتمل إلا في صورة مركب يجمع بين النقيضين؛ لهذا كانت كل الأطروحـات السلفية في نقض الفلسفة تتلبّس ضرورة بما نفته أو نقضته.
وإذا نحن رجعنا إلى المساهمات السلفية التي تفاعلت مع الفلسفة أو فروعها، سنقف على نقطة مهمة، وهي أن نقض الشيء لم يكن إلا بمقوماته؛ فـ “ذم الـتأويل” تأسّس على رؤية معينة لفلسفة التأويل، و”نقض المنطق” تم باستيراد أشكال أخرى من المنطق، وتفكيك الميتافيزيقا اليونانية كان بابتكار ميتافيزيقا متوازية، لكن إذا نظرنا في هذه الأخيرة، أي تقويض الميتافيزيقا، فسنجد أنه حصل خلط بينها وبين الفلسفة في التراث السلفي، وهو خلط كان له دور في توريط السلفية المعاصرة في موقفها من الفلسفة، خصوصًا عند أهل السلطات المعرفية.
لن نرجع إلى فتاوى هذه السلطات، ولا يمكن تتبّع ما ورد من تحريم في سياقات كثيرة ومتعددة لاستحالة إحصائها، فبغض النظر عن أن القول بالتحريم لا يطال إلا أفعال المكلفين، والفلسفة في أشهر تعريفاتها نشاط ذهني يروم الاستشكال وابتكار المفاهيم، وبغض النظر عن اطلاع هؤلاء على الكتابات الفلسفية أم لا؛ إلا أن حكمهم على الفلسفة قام على عدم تمييزهم بين الميتافيزيقا اليونانية والفلسفة بوصفها فاعلية عقلية، فالمواجهات التراثية إنما كانت مع “معالجة العقل للميتافيزيقا”، وهذه القضية للأسف توسّعت على طول تاريخ السلفية حتى طالت وشملت كل ما يدخل تحت اسم الفلسفة، ومن هنا يتبيّن أن هذه السلطات لم تُدرك الموقف الذي تؤيده ولا أدركت نقيضه!
ولابن حزم رد طريف على من عاب عليه قراءته لكتب الفلسفة، يقول: «أطالعتها أيها الهاذر أم لم تطالعها؟ فإن كنتَ طالعتها، فلِم تنكر على من طالعها كما طالعتها أنت؟! وهلّا أنكرت ذلك على نفسك، وأخبرنا: ما الإلحاد الذي وجدت فيها؟! إن كنت وقفت على مواضعه منها، وإن كنت لم تطالعها، فكيف تنكر ما لا تعرف». [رسالة في الرد على الهاتف من بعد].
وهذا ما يجعلنا نقول إن مسألة نبذ الفلسفة إنما كان موقفًا سُلطويًا، وهو ما يربط السلفية -بوصفها تجليات فكرية لرجال الدين- مع مواقف أخرى كان لها الموقف نفسه، وهو موقف المُستبد وموقف الإنسان العامي، فهذا الثالوث -الذي هو الاستبداد والسلفية والعادي- أسّس موقفه على الخوف من ضياع السلطة؛ لأن الفلسفة فعلُ فضحٍ، أي فضح السلطوي في السياسي، وفضح الدنيوي في العَقَدي، وفضح العادي في اليومي.
_______
*التقرير

شاهد أيضاً

العولمة بين الهيمنة والفشل

(ثقافات) العولمة بين الهيمنة والفشل قراءة في كتاب “ايديولوجية العولمة، دراسة في آليات السيطرة الرأسمالية” لصاجبه …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *