*أبو بكر العيادي
من المفارقات أن فنانا بحجم فيلاثكيث، أحد أعلام العصر الذهبي الأسباني، ليس له أدنى لوحة في متحف اللوفر، ولم يحظ بمعرض كبير في فرنسا كلها إطلاقا. ومن ثمّ فإن المعرض الذي يقام له في القصر الكبير بباريس طوال أربعة أشهر (من 25 مارس إلى 13 يوليو 2015) هو حدث بارز، وفرصة للوقوف على أهم مميزات هذا الرسام الإشبيلي الشهير.
ولد دييغو فيلاثكيث (1599-1660) في إشبيلية كبرى المدن الأسبانية في ذلك الوقت، وتتلمذ منذ سن العاشرة على فرنثيسكو دي هيريرا ثم فرنثيسكو باشيكو، الذي أهله للعضوية في نقابة الفنانين ولم يبلغ الثامنة عشرة من عمره، وزوّجه ابنته، وساعده على تخيّر أسلوبه.
اصطبغت بداياته في إشبيلية بالمذهب الطبيعي، وأبدع في جنس شعبي أسباني عرف بالـ”بوديغون”، ومعناه اليوم “طبيعة ميتة، أو صورة ثابتة”، ولكنه في ذلك العصر، أي القرن السابع عشر، كان يعني لوحة تمثل مشهدا من حياة عامة الناس في الفنادق البائسة والخمارات المعتمة.
وكانت أعماله الأولى لوحتين من هذا الجنس: “ثلاثة عازفين” و”ثلاثة رجال حول مائدة”. وقد تميزت شخصياتهما بحضور قوي وتعبيرية لافتة مع أضواء غسقية يعطي انعكاسها على الأقداح مسحة دينية.
وفي المقابل كانت للفتى طموحات أكبر، فانتقل إلى مدريد مرة أولى عام 1622، حيث رسم بورتريهات لبعض المقربين من الملك، فبدا تأثره بأسلوب كرافاج، ذلك الأسلوب الذي اكتشفه فيلاثكيث عن طريق لوحات جوزيبي ريبيرا.
ثم دعي مرة ثانية عام 1623 ليرسم بورتريه للملك فيليب الرابع نفسه، بعد أن بلغه خبر هذا الفنان الموهوب. فلما نال البورتريه إعجابه، عينه رسميا فنان القصر، فراح يرسم بورتريهات لأفراد العائلة الملكية تميزت بصدقها وحيويتها. وهو ما مكنه أيضا من الاطلاع على التشكيلات الملكية، ودراسة خصوصياتها.
وفي أثناء إقامته، هيأ له الملك مشغلا خاصا، فكان فيلاثكيث يتابع عمله منبهرا بقوته التصويرية، بدا أثرها في أعمال فيلاثكيث اللاحقة خصوصا “انتصار باخوس?.
وفي عام 1630، سمح له الملك بزيارة إيطاليا، حيث تنقل بين روما وجنوة والبندقية واكتشف فنون العصر القديم وكبار الرسامين، فخفت خطوطه وازدادت لمسته وضوحا، وتخلى عن الضوء الغسقي ليشتغل على المشهد، ويرسم لوحات تاريخية ودينية مثل “ثوب يوسف”.
خلال تلك الزيارة، اهتم كثيرا بتيسيان (1488-1576) وأعجب بعمقه وحساسيته. ومنذ عام 1631 صار متمكنا من أدوات فنه، فانطلق في أعمال كبرى مثل “استسلام بريدا” وازداد سيطرة على معالجة الضوء، وصار أكثر تحررا في لوحاته، خصوصا سرعة حركات الفرشة التي جلبت له في ما بعد إعجاب الانطباعيين، فاتخذوه مرجعا.
كان يرسم الناس، أيا ما تكن مكانتهم، كما هم، في هندامهم وخِلقتهم، دون تجميل أو تقبيح، يستوي في ذلك الملوك ورجال الدين والأقزام والمهرجون والبسطاء.
وبذلك أضفى على العيوب والعاهات الخلَقية نوعا من الخلود كما يقول مفوض المعرض غيوم كيينز، واكتست “الدمامة الجسدية” لشخوص لوحاته روعة فنية.
من ذلك مثلا البورتريه الذي رسمه للبابا إينّوسنت العاشر، وكان دميم الخلقة، ذا وجه تشوبه بثور وأذنين محمرتين، ما جعل البابا يهتف عند الاطلاع عليه بأنه بالغ الصدق.
وقد عدّ النقاد ومؤرخو الفن تلك اللوحة من أرقى ما جادت به عبقرية الفن الغربي.
هذا الإشبيلي العبقري الذي قال عنه كلود مونيه “إنه فنان الفنانين” بمعنى رأسهم وسيدهم، واستوحى بيكاسو من لوحته الشهيرة “وصيفات الشرف” ما يقارب خمسين لوحة، ضمن مساره التأويلي الذي كان يعارض فيه أعمال كبار الفنانين، حظي ببحوث عديدة، لأنه يمارس ما يسميه الباحث خوسيه لوبيث ري عملية إعادة خلق، فلوحاته التي تبدو كلاسيكية في الظاهر، تقيم في الواقع ملمحا فنيا جديدا. لذلك اهتم به فنانون مثل أوغست رونوار وإدغار دوغا وسلفادور دالي، واستفادوا من مقاربته وتقنياته.
“وصيفات الشرف”، أشهر أعماله وأكثرها نضجا، لم تكن ضمن اللوحات المعروضة في المعرض الباريسي، لأنها محفوظة في متحف برادو بمدريد لا تغادره، شأنها شأن الجوكندا في اللوفر.
هذه اللوحة التي تعتبر من أشهر الأعمال الفنية في الغرب، أنجزها فيلاثكيث عام 1656. وفيها غامر كما لم يغامر من قبل، فرسم نفسه وجعل الملك والملكة ينعكسان على صفحة مرآة.
وفكرة المرآة ليست جديدة، فقد سبقه إليها الفلندري يان فان آيك في لوحة “بورتريه الزوجين أرنولفي”، وكانت من بين التشكيلات الملكية الأسبانية، وإن كانت المرآة في لوحة فان آيك لا تعكس زاوية محددة بل كامل الغرفة.
وميزة اللوحة، علاوة على تقنيتها حيث اللمسة أشمل وأوسع مما عهدناه لدى فيلاثكيث، أنها تعطي انطباعا عن صورة جماعية التقطت للتوّ واللحظة، وهو ما اعتبره النقاد صورة شمسية قبل الأوان، إضافة إلى جدلهم الذي لا ينتهي عن مراميها، وعن سبب وجود الرسام نفسه داخل اللوحة، بحضور الملك والملكة، ووصيفات الشرف.
________
*الجريدة